دور المسـلمين الحضاري في تطـور العلوم أ. د. عبد الله حجازي
من الخطأ أن يُظنَّ أن العلم المحمود يقتصر على دراسة علوم الشريعة فقط، وأن ما وراءها نافلة يؤديها من شاء تطوعاً، أو يتركها وليس عليه من حرج...!!
هذا خطأ كبير؛ فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث المتواصل في هذه العلوم في زماننا هذا لا تقل أهمية عن علوم الدين المحضة. وحسبنا أن نعلم أن الإعداد للعدو يتطلب معرفة كل سلاح، وهذا لا يتأتى إلا إذا نفرت طائفة من المسلمين تتفقه في العلوم الكونية.
ولم يحضَّ الإسلام أتباعه على العلم وهم مكتوفو الأيدي؛ بل هيأ لهم الحرية الفكرية التي لولاها لما كانت هذه الأعداد الكبيرة من العلماء المسلمين منهم وغير المسلمين في شتى علوم المعرفة. والحرية الفكرية التي بسط الإسلام سلطانها ذات دلالة بالغة فيما يخص علاقة العلم بالدين الحق؛ ذلك أنه لم يشهد تاريخ الإسلام حادثة واحدة من حوادث القتل أو الحرق من جراء الإفصاح أو التلميح بفكرة علمية طبيعية، مثل كروية الأرض أو دورانها أو مثل ظاهرة قوس المطر.
وعلى العكس كان الحال في أوروبا؛ فقد كان عقاب الكنيسة لمن يصرح بمثل هذه الأفكار الحرق حياً أو الإعدام شنقاً.
هذا، ولا يخفى بالطبع أن سكان الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا في معزل عن العالم الخارجي من الناحية العلمية، إلا في أمور يسيرة اقتضتها ظروف المعيشة آنذاك. لهذا فإن الإنجازات والإسهامات الهائلة التي شملت جميع فنون العلوم والمعرفة ما كانت لتكون لولا هذا الدين العظيم دين الإسلام. ومن الصعب أن نلم في هذه العجالة بما أنجزه المسلمون عبر القرون السابقة، وسنقصر الحديث على الإسهامات والإنجازات التي كان لها أثرها المباشر في التقدم الحضاري الإنساني الذي نعيشه اليوم.
إلا أنني أستبق القول، مستشهداً بما جاء على لسان جورج سارطون (ت 1375هـ - 1955م) شيخ مؤرخي العلوم - في عصرنا - في محاضرة ألقاها في مكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1370هـ - 1950م، فقد جاء فيها :
"يحاول نفر من المؤرخين أن يبخسوا قدر هذا الإنتاج العظيم بادعائهم أنه لم يكن فيه ابتكار ما، وبأن العرب لم يكونوا سوى مقلدين... ويبخسونه مرة ثانية بقولهم: إن الأخذ من مصادر متعددة ليس - على كل حال - خيراً من الأخذ من مصدر واحد. تلك طريقة في المجادلة مضللة، وخصوصاً إذا كان الكلام يتناول الرياضيات. ثم إن الرياضيين العرب لم ينسخوا من المصادر اليونانية والسنسكريتية نسخاً، ولو أنهم فعلوا ذلك لما جاؤوا بفائدة؛ ولكنهم جمعوا بين المصدرين ثم ألقحوا الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وإذا لم يكن هذا الذي فعله العرب ابتكاراً، فليس في العلم إذن ابتكار على الإطلاق؛ فالابتكار العلمي في الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد؛ وليس ثمة ابتكارات مخلوقة من العدم".
وقد أفلح المسلمون في شتى فنون المعرفة؛ ففي مجال الصيدلة تذكر الموسوعة البريطانية: "أن كثيراً من أسماء الأدوية وكثيراً من تراكيبها المعروفة حتى يومنا هذا أيضاً. وفي الحقيقة فإن المبنى العام للصيدلية الحديثة - فيما عدا التعديلات الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال - قد بدأه العرب".
أما (لوبــون) فيذكـر أن: "الطب مدين للعــرب بعقاقير كثيرة.. ومدين لهم بفـــن الصيــدلة وبكثير مــن المستحضـرات التي لا تزال تستعمل كالأشــربة واللعوق واللزقات والمراهــم والدهان والميــاه المقطـــرة.. إلــخ".
إلا أنه من أهم مآثر المسلمين وإنجازاتهم في ميدان الصيدلة والأدوية إدخالهما في نظام المراقبة، خصـوصـاً بعدمـا تفـشى الغش وفسدت النفوس.
يــرى (القفطي) و (ابـن أبـي أصيبعة) - كلٌ في كتابه -: أن (يوسف لقوة) الكيميائي كان من أوائل من أشار على الخليفة المأمون باختبار أمانة وصدق الصيادلة. ثم كان (زكريا الطيفوري) الذي اقترح على (الإفشين) أن يمتحن الصيادلة على هذا المنوال. وبالفعل، فقد تبين للإفشين أن غالبية الصيادلة المرافقين في المعسكر غشاشون، فأمر الإفشين بإحضار جميع الصيادلة، فمن أنكر معرفة تلك الأسماء التي وضعها الإفشين أَذِنَ له بالمقام في معسكره، ونفى الباقين عن المعسكر، ونادى في معسكره بذلك، وكتب إلى المعتصم يلتمس بعثه إليه بصيادلة لهم أديان ومطبِّبين مثل ذلك، فاستحسن المعتصم فعله ووجه إليه بمن سأل. وهكذا سُنَّ امتحانُ الصيادلة منذ ذلك الوقت، في عهد المعتصم، أي منذ عام 221 هـ - 836 المجتمع ، وبذلك كان المسلمون أول من أنشأ فن الصيدلة على أساس علمي سليم وأقام الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة التي تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس.
ولقد أقيمت الصيدليات ملحقة بالبيمارستانات وهي المستشفيات، وأقيمت مع المعسكر على صورة مستشفى ميداني، وكانت حافلة بكل ما يحتاجه المرضى في البيمارستان أو في المعركة.
ولقد كُتبت في الأدوية مؤلفات لا يسعنا أن نذكر منها إلا واحداً، وهو: "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لعبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار (ت 646هـ - 1248م)، جمع فيه معلومات يونانية، وأودعه مقدمة تعكس المنهج التجريبي الذي اتبعه في تدوين المعلومات التي جمعها؛ فقد ورد في الغرض الثاني من وضعه الكتاب قوله: "صحة النقل فيما أذكره عن الأقدمين وأحرره عن المتأخرين، فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لديَّ بالخُبْر لا بالخَبَر ادخرته كنزاً سرياً، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سـوى الله غنياً، والتنبيه علـى كل دواء وقـع فيه وهْـم أو غلط لمتقــدم أو متأخــر؛ لاعتماد أكثرهـم علــى الصحف والنقـل، واعتمادي على التجربـة والمشاهدة حسبما ذكــرت مــن قبــل".
هذا وقد كان (ابن البيطار) يعاين منابت النبات ويتحقق من هويته قبل أن يدوِّنه. أما (رشيد الدين الصوري، ت 639 هـ - 1241م)، فكان يصطحب معه رساماً ويدرس النباتات في مواطنها وفي جميع مراحل نموها، ويتأمل هناك لون النبات ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويُصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها، وبهذا عرف الصيادلة من أي أجزاء النبات يكون العقار أفيد وأفضل، كما عرفوا مواعيد جمع العقاقير من النباتات وجَنْيِها وقطفها، وكيفية ادخارها.
مع تحيات أبو أنس ((شــــــــويــــــــــــل))
من الخطأ أن يُظنَّ أن العلم المحمود يقتصر على دراسة علوم الشريعة فقط، وأن ما وراءها نافلة يؤديها من شاء تطوعاً، أو يتركها وليس عليه من حرج...!!
هذا خطأ كبير؛ فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث المتواصل في هذه العلوم في زماننا هذا لا تقل أهمية عن علوم الدين المحضة. وحسبنا أن نعلم أن الإعداد للعدو يتطلب معرفة كل سلاح، وهذا لا يتأتى إلا إذا نفرت طائفة من المسلمين تتفقه في العلوم الكونية.
ولم يحضَّ الإسلام أتباعه على العلم وهم مكتوفو الأيدي؛ بل هيأ لهم الحرية الفكرية التي لولاها لما كانت هذه الأعداد الكبيرة من العلماء المسلمين منهم وغير المسلمين في شتى علوم المعرفة. والحرية الفكرية التي بسط الإسلام سلطانها ذات دلالة بالغة فيما يخص علاقة العلم بالدين الحق؛ ذلك أنه لم يشهد تاريخ الإسلام حادثة واحدة من حوادث القتل أو الحرق من جراء الإفصاح أو التلميح بفكرة علمية طبيعية، مثل كروية الأرض أو دورانها أو مثل ظاهرة قوس المطر.
وعلى العكس كان الحال في أوروبا؛ فقد كان عقاب الكنيسة لمن يصرح بمثل هذه الأفكار الحرق حياً أو الإعدام شنقاً.
هذا، ولا يخفى بالطبع أن سكان الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا في معزل عن العالم الخارجي من الناحية العلمية، إلا في أمور يسيرة اقتضتها ظروف المعيشة آنذاك. لهذا فإن الإنجازات والإسهامات الهائلة التي شملت جميع فنون العلوم والمعرفة ما كانت لتكون لولا هذا الدين العظيم دين الإسلام. ومن الصعب أن نلم في هذه العجالة بما أنجزه المسلمون عبر القرون السابقة، وسنقصر الحديث على الإسهامات والإنجازات التي كان لها أثرها المباشر في التقدم الحضاري الإنساني الذي نعيشه اليوم.
إلا أنني أستبق القول، مستشهداً بما جاء على لسان جورج سارطون (ت 1375هـ - 1955م) شيخ مؤرخي العلوم - في عصرنا - في محاضرة ألقاها في مكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1370هـ - 1950م، فقد جاء فيها :
"يحاول نفر من المؤرخين أن يبخسوا قدر هذا الإنتاج العظيم بادعائهم أنه لم يكن فيه ابتكار ما، وبأن العرب لم يكونوا سوى مقلدين... ويبخسونه مرة ثانية بقولهم: إن الأخذ من مصادر متعددة ليس - على كل حال - خيراً من الأخذ من مصدر واحد. تلك طريقة في المجادلة مضللة، وخصوصاً إذا كان الكلام يتناول الرياضيات. ثم إن الرياضيين العرب لم ينسخوا من المصادر اليونانية والسنسكريتية نسخاً، ولو أنهم فعلوا ذلك لما جاؤوا بفائدة؛ ولكنهم جمعوا بين المصدرين ثم ألقحوا الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وإذا لم يكن هذا الذي فعله العرب ابتكاراً، فليس في العلم إذن ابتكار على الإطلاق؛ فالابتكار العلمي في الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد؛ وليس ثمة ابتكارات مخلوقة من العدم".
وقد أفلح المسلمون في شتى فنون المعرفة؛ ففي مجال الصيدلة تذكر الموسوعة البريطانية: "أن كثيراً من أسماء الأدوية وكثيراً من تراكيبها المعروفة حتى يومنا هذا أيضاً. وفي الحقيقة فإن المبنى العام للصيدلية الحديثة - فيما عدا التعديلات الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال - قد بدأه العرب".
أما (لوبــون) فيذكـر أن: "الطب مدين للعــرب بعقاقير كثيرة.. ومدين لهم بفـــن الصيــدلة وبكثير مــن المستحضـرات التي لا تزال تستعمل كالأشــربة واللعوق واللزقات والمراهــم والدهان والميــاه المقطـــرة.. إلــخ".
إلا أنه من أهم مآثر المسلمين وإنجازاتهم في ميدان الصيدلة والأدوية إدخالهما في نظام المراقبة، خصـوصـاً بعدمـا تفـشى الغش وفسدت النفوس.
يــرى (القفطي) و (ابـن أبـي أصيبعة) - كلٌ في كتابه -: أن (يوسف لقوة) الكيميائي كان من أوائل من أشار على الخليفة المأمون باختبار أمانة وصدق الصيادلة. ثم كان (زكريا الطيفوري) الذي اقترح على (الإفشين) أن يمتحن الصيادلة على هذا المنوال. وبالفعل، فقد تبين للإفشين أن غالبية الصيادلة المرافقين في المعسكر غشاشون، فأمر الإفشين بإحضار جميع الصيادلة، فمن أنكر معرفة تلك الأسماء التي وضعها الإفشين أَذِنَ له بالمقام في معسكره، ونفى الباقين عن المعسكر، ونادى في معسكره بذلك، وكتب إلى المعتصم يلتمس بعثه إليه بصيادلة لهم أديان ومطبِّبين مثل ذلك، فاستحسن المعتصم فعله ووجه إليه بمن سأل. وهكذا سُنَّ امتحانُ الصيادلة منذ ذلك الوقت، في عهد المعتصم، أي منذ عام 221 هـ - 836 المجتمع ، وبذلك كان المسلمون أول من أنشأ فن الصيدلة على أساس علمي سليم وأقام الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة التي تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس.
ولقد أقيمت الصيدليات ملحقة بالبيمارستانات وهي المستشفيات، وأقيمت مع المعسكر على صورة مستشفى ميداني، وكانت حافلة بكل ما يحتاجه المرضى في البيمارستان أو في المعركة.
ولقد كُتبت في الأدوية مؤلفات لا يسعنا أن نذكر منها إلا واحداً، وهو: "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لعبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار (ت 646هـ - 1248م)، جمع فيه معلومات يونانية، وأودعه مقدمة تعكس المنهج التجريبي الذي اتبعه في تدوين المعلومات التي جمعها؛ فقد ورد في الغرض الثاني من وضعه الكتاب قوله: "صحة النقل فيما أذكره عن الأقدمين وأحرره عن المتأخرين، فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لديَّ بالخُبْر لا بالخَبَر ادخرته كنزاً سرياً، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سـوى الله غنياً، والتنبيه علـى كل دواء وقـع فيه وهْـم أو غلط لمتقــدم أو متأخــر؛ لاعتماد أكثرهـم علــى الصحف والنقـل، واعتمادي على التجربـة والمشاهدة حسبما ذكــرت مــن قبــل".
هذا وقد كان (ابن البيطار) يعاين منابت النبات ويتحقق من هويته قبل أن يدوِّنه. أما (رشيد الدين الصوري، ت 639 هـ - 1241م)، فكان يصطحب معه رساماً ويدرس النباتات في مواطنها وفي جميع مراحل نموها، ويتأمل هناك لون النبات ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويُصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها، وبهذا عرف الصيادلة من أي أجزاء النبات يكون العقار أفيد وأفضل، كما عرفوا مواعيد جمع العقاقير من النباتات وجَنْيِها وقطفها، وكيفية ادخارها.
مع تحيات أبو أنس ((شــــــــويــــــــــــل))
تعليق