ليس "من رأى كمن سمع"... انطباعات صحفي سوداني عائد من الحج
"نور الأمكنة" تحقق "الامتياز" في الحج وكل حج... فمن يقدر على عمل كهذا؟!
في مدخل مكة المكرمة التي تهفو إليها القلوب والأبصار وقف جندي سعودي في مقتبل العمر يقلب أوراقنا الثبوتية، يطالعها بتمعن ودقة ثم يشخص ببصره إلى داخل الحافلة المقلة لأكثر من 60 حاجاً إلى بيت الله... يبتسم في وجوه ضيوف الرحمن ويسأل بلهجة سعودية محببة: كل أوراقكم سليمة؟ فيرد عليه الحجاج بالإيجاب... وقبل أن يهبط من الحافلة يلحظ مسناً بلغ به الإعياء حداً فيسرع إليه في مؤخرة الحافلة يقدم له كأساً من مشروب مثلج ويردف بسؤال الحاج المسن إن كان يحتاج إلى إعانة طبية، أو إسعاف عاجل... يختفي الجندي لدقائق ثم يعود برفقة طبيب (يبدو أنه من منسوبي الهلال الأحمر السعودي)... ليتم فحص الحاج... وتقديم العلاج اللازم... فتسري العافية ـ بعون الله ـ في جسد الكهل الذي يرفع يديه مبتهلاً: "اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً".
***
هي "ضربة البداية" التي بثت الطمأنينة في نفوس مرهقة، وأبدان أفرط التعب في نسج ملامحه فيها، استقبال حميم من جندي لا تنام عيناه في خدمة وطنه ومقدراته... ومقدساته من عبث العابثين وحقد الحاقدين، ارتفعت بمعنوياتنا إلى عنان السماء، فبدت مكة المكرمة من البعد، مثل لؤلؤة بيضاء تستقبل أحبابها ـ أحباب الله ـ فاردة ذراعيها، ترحب وتستقبل وتخدم بلا منّ أو حتى انتظار كلمة شكر.
"خدمة حجاج بيت الله شرف لنا"...
شعار تعمل به الأيدي قبل أن تنطق به الألسن ويتدافع السعوديون على النطاقين الشعبي والرسمي لتنفيذ الشعار عملاً ميدانياً واسعاً وجهداً مثابراً لا تخطئه العيون.
"ليس من رأى... كمن سمع"، كنت ومعي قافلة من ضيوف الرحمن شهوداً على العناية الواسعة بضيوف الرحمن، كل هم صغير يمثل عند القائمين في أمر الحج في السعودية، اهتماماً كبيراً يحرص المسؤول والمواطن على وضع حل ميداني عاجل له... فالجندي البسيط الذي سارع بإسعاف الحاج المسن، لم تصله تعليمات فورية بأداء ما قام به، غير أن موقفه ذاك ينبع من إحساس مواطن يعمل بتوجيه مباشر من ضميره وبعظم المسؤولية التي أوكلت إليه... ومن ثم كانت خدمة الحجيج شرف لهم جميعاً... إنه شرف... وأيما شرف!.
***
إحساسك الداخلي أنك فرد واحد ضمن أكثر من مليونين ونصف المليون حاج يؤدون أداء ما تود أن تؤديه أنت، في مكان واحد وعلى صعيد واحد وفي وقت واحد، يصيب الإنسان بالذعر، كيف تتم ضبط حركة كل هذه الأمواج البشرية، وقد تباينت ثقافاتهم، وتعددت لغاتهم واختلفت سحنهم وطبائعهم، ما السبيل لتوفير المعاش لهم من نزل وعلاج ورعاية... يرتفع همسي إلى تساؤل طريف إلى جاري في المسكن: ماذا لو تهت... وضعت وسط هذه الأمواج البشرية المتلاطمة... فيرد عليّ صديقي: لا تحمل هماً... فهناك فرق خاصة تولي مثل هذه "المسائل الصغيرة" عنايتها... يضحك رفيق الرحلة ويقول: ضع... وته كيفما تشاء... فالكشافة السعودية لك بالمرصاد، ستعيدك على حالتك إلى حيث تهت... الملاحظة الذكية من رفيق الرحلة نقلت عدوى الابتسامة والضحكة المتعبة إلى الجميع في حافلة ضيوف الرحمن التي هدأ محركها إيذاناً بدخولنا إلى أم القرى في مكة المكرمة.
قاصد نور البقع
الله... يا الله...
لبيك اللهم لبيك...
في السودان، أهزوجة يرددها مودعو حجاج بيت الله تقول: "قالوا الحجيج قطع... قاصد نور البقع" وتعني تهنئة حجاج بيت الله مسبقاً بنعمة هم في طريقهم إليها في (نور البقع) أرض المقدسات، عشرات الآلاف الذين وصلوا إلى نور البقع، توحدت أفئدتهم... وسمت نفوسهم وصار الوجدان المتعدد واللغة المختلفة، و"الرطانة" المتباينة في صعيد واحد...
مكة المكرمة لبست أزهى حللها... رجال المرور هنا لا ترهقهم الشمس اللاهبة، ولا يحد من مثابرتهم قيظ الصيف منتشرون كالنحل في الشوارع الفسيحة والضيقة على حد سواء، ينظمون حركة السير يفكون الاختناقات في ثوان معدودة.
في شارع رئيس مؤد للحرم المكي الشريف تعطلت سيارة صغيرة ووقف صاحبها يستنجد بالمارة، وفي دقائق جاءت "الفزعة" من رجلي أمن راحا يدفعان السيارة بينما جلس صاحبها على المقود شاكراً "فرج الله" الذي أتى إليه من حيث لا يحتسب!
من يجرؤ على طلب كهذا؟
كنا في الفندق، نشاهد وقائع المؤتمر الصحفي العالمي للأمير نايف بن عبد العزيز المسؤول الأول عن أمن ضيوف الرحمن وسلامتهم، سأله الصحفيون عن أقاويل وادعاءات كثيرة... لعل أطرفها أن المخابرات الأمريكية ستراقب الحج، ساد صمت عجيب لوبي الفندق الذي اكتظ بحجاج بيت الله، وفيهم نفر كثير احتل موقعه أمام الشاشة البلورية ليرى.. ويسمع كيف استعدت السعودية لهذا الموسم الحافل..
يقول الأمير نايف مجيبا على سؤال الصحفيين "من يجرؤ على طلب كهذا".. راح ضيوف الرحمن المتحلقون حول التلفاز, يرددون بصوت واحد "الله أكبر"
نعم.. من يجرؤ على طلب كهذا, فالسعودية التي تمثل قلب ووجدان الأمة لا تفرط في ثوابتها, ولا توكل أحدا لأداء مهمة تؤديها هي وتعتبرها بحق شرفا لها... بل إنني أجزم أن أي جهة غيرها لن تستطيع أن تنظم حركة الحجيج مثلها, فقد اكتسبت السلطات السعودية بتراكم سنين الخبرة, والمنهجية الدقيقة التي تتبعها, مقدرات كبيرة في تسيير أعمال الحج وفق الخطة الموضوعة التي تبدأ ملامحها بعد مغادرة نفرة موحدة أول فوج من المغادرين لمكة المكرمة.
في منى آلاف من الخيام البيضاء اللامعة تبدو للناظر من أعلى مثل حبات المسبحة عقد منظوم, شوارع مرتبة, خدمات صحيحة وعلاجية راقية... نقاط متعددة لا يمكن حصرها لرجال الدفاع المدني, وقد أخذوا مواقعهم في حالة الاستعداد تحسبا لأي طارىء قد يعكر صفو أيام الله.
وقد تعاملت هذه القوات في أعوام سابقة مع حالات للحريق, أشعلها اختلاف مفاهيم وعادات بعض الحجاج الذين جلبوا "أسطوانات للغاز" ... وضربوا مخيماتهم المجانية على قمم الجبال وسفوحها, غير أن السلطات السعودية كانت حازمة لمواجهة هذه الظاهرة, فكانت المتابعة الدقيقة والحسم الفوري لأي خروج عن النظم والقوانين التي تمس أمن ضيوف الرحمن وطمأنينتهم العامة.
الطقس الجميل, المعتدل ساهم مع عوامل كثيرة, في انسياب أداء المناسك وقد عاد باعة المثلجات في هذا العام كما ذهبوا... وكانت الجولة لصالح بوفيهات الشاي والقهوة والوجبات الساخنة.
المخيمات التي لا تكاد أن تفرق بينها, عرفت أنها استجلبت من الخارج وهي خيام مقاومة لا تشتعل, وقد تم ضربها على مراحل.. وفي هذا العام اكتمل العقد وأصبحت منى منطقة معزولة ضد الحريق والاشتعال.. والخيمة الواحدة, هي شقة مصغرة مقسمة إلى حجرات, ودورات مياه ومواقع للوضوء... مع أجهزة تكييف تقاوم هي الأخرى لظى الشمس وحر الظهيرة.
من منى إلى صعيد عرفات الطاهر طريق مسفلت تسلكه الحافلات, كيف سبيل الآلاف من السيارات إلى عرفات في نفرة موحدة ... في وقت واحد... واتجاه واحد وتأتي الإجابة عمليا: تتحرك الحافلة المكيفة ولا تعترضها إلا إشارات رجال المرور وملاحظاتهم الحازمة بالسير في الطريق المحدد والابتعاد عن التجاوز.. وفي الموقف الطاهر في صعيد عرفات تتجسد قيم المسؤولية والعطاء الذي لا يعرف الحدود..
"طلبة العلم"... وهم الدعاة الذين تبعثهم وزارة الشؤون الإسلامية والحج يجيبون على الاستفسارات ويصدرون الفتاوى ميدانيا لكل من اختلط عليهم الأمر.. وبين كل لحظة وأخرى تجوب شاحنات ضخمة الساحات والميادين توزع "مبرة خادم الحرمين الشريفين" وهي مياه مثلجة معبأة في قوارير أنشىء لها مصنع خاص تكلف به الملك فهد لسقيا ضيوف الرحمن.
التدافع في جسر الجمرات, وجهل بعض الحجاج بأصول النسك الصحيح يؤدي في كل عام إلى خسائر في الأرواح, وخاصة بعض المسنين... وفي هذا العام تمثلت الخسائر في عشرات من أجهزة الهواتف المحمولة التي قذف بها بعض الحجاج لرجم الشيطان وقد تنبهت السلطات السعودية إلى جهل البعض شروط صحة النسك فتوزع "طلبة العلم" - أي الدعاة - عند جسور الجمرات يقدمون النصح والإرشاد لحجاج بيت الله... وكان "للجامرين بأجهزة الهاتف المحمول" نصيب كبير من هذه الإرشادات.
حدثني أحد المرافقين عن صعوبات رمي الجمرات, وضحاياه الكثر, فتسلل إلى نفسي خوف إنساني لا مفر ولا بد منه في مثل هذا الموقف, غير أن انتشار رجال الأمن السعوديين وتحسبهم لكل طارئ أو احتمال بث الطمأنينة في نفسي وسارعت في موكب مهيب إلى الجسر... الذي احتاط له المختصون بالدراسات والأبحاث لمنع التزاحم والتدافع, في أعلى الجسر عشرات من الجنود بزيهم المميز يحملون المناظير المكبرة فيما ضرب العشرات منهم طوقا أمنيا صلبا لتفويج الحجاج إلى الجسر... في جانب آخر احتل عدد من الجنود موقعا بعيدا يرقبون منه الموقف وهؤلاء - كما عزمت من رفيق رحلة العمر - جاهزون للتدخل وإنقاذ أي متعثر... فجاء الرمي بفضل هؤلاء سهلا ميسورا مسح ما رسمته في خيالي من دماء... ووفيات ودهس.
إنها رحلة العمر,أعدت لها السعودية عدتها وعتادها, فحققت أملي وأمل كل متطلع لأداء الشعائر.. فنجحت في مهمتها بدرجة ممتازة واستحقت ثناء ودعاء كل من زار وادي الشعائر بيسر واطمئنان وهنا في السعودية, لا ينتظر أحد فيها كلمة ثناء وشكر, والمطلوب من كل حاج أن يلتزم بالضوابط التي تضعها هذه البلاد لتنظيم العودة وفق البرامج والخطط الموضوعة.
وإن كانت السعودية تعاني مثل غيرها من البلاد الجاذبة من المقيمين غير الشرعيين فإن من أوجب واجبات ضيوف الرحمن رد الدين الكبير لها انضباطا في العودة والتزاما بتنظيماتها في هذا الشأن.
للسعودية... وللسعوديين الذين بدأوا رحلة الاستعداد لحج العام القادم منذ الآن... أقول:
شكرا لبلد الرسالة!
"نور الأمكنة" تحقق "الامتياز" في الحج وكل حج... فمن يقدر على عمل كهذا؟!
في مدخل مكة المكرمة التي تهفو إليها القلوب والأبصار وقف جندي سعودي في مقتبل العمر يقلب أوراقنا الثبوتية، يطالعها بتمعن ودقة ثم يشخص ببصره إلى داخل الحافلة المقلة لأكثر من 60 حاجاً إلى بيت الله... يبتسم في وجوه ضيوف الرحمن ويسأل بلهجة سعودية محببة: كل أوراقكم سليمة؟ فيرد عليه الحجاج بالإيجاب... وقبل أن يهبط من الحافلة يلحظ مسناً بلغ به الإعياء حداً فيسرع إليه في مؤخرة الحافلة يقدم له كأساً من مشروب مثلج ويردف بسؤال الحاج المسن إن كان يحتاج إلى إعانة طبية، أو إسعاف عاجل... يختفي الجندي لدقائق ثم يعود برفقة طبيب (يبدو أنه من منسوبي الهلال الأحمر السعودي)... ليتم فحص الحاج... وتقديم العلاج اللازم... فتسري العافية ـ بعون الله ـ في جسد الكهل الذي يرفع يديه مبتهلاً: "اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً".
***
هي "ضربة البداية" التي بثت الطمأنينة في نفوس مرهقة، وأبدان أفرط التعب في نسج ملامحه فيها، استقبال حميم من جندي لا تنام عيناه في خدمة وطنه ومقدراته... ومقدساته من عبث العابثين وحقد الحاقدين، ارتفعت بمعنوياتنا إلى عنان السماء، فبدت مكة المكرمة من البعد، مثل لؤلؤة بيضاء تستقبل أحبابها ـ أحباب الله ـ فاردة ذراعيها، ترحب وتستقبل وتخدم بلا منّ أو حتى انتظار كلمة شكر.
"خدمة حجاج بيت الله شرف لنا"...
شعار تعمل به الأيدي قبل أن تنطق به الألسن ويتدافع السعوديون على النطاقين الشعبي والرسمي لتنفيذ الشعار عملاً ميدانياً واسعاً وجهداً مثابراً لا تخطئه العيون.
"ليس من رأى... كمن سمع"، كنت ومعي قافلة من ضيوف الرحمن شهوداً على العناية الواسعة بضيوف الرحمن، كل هم صغير يمثل عند القائمين في أمر الحج في السعودية، اهتماماً كبيراً يحرص المسؤول والمواطن على وضع حل ميداني عاجل له... فالجندي البسيط الذي سارع بإسعاف الحاج المسن، لم تصله تعليمات فورية بأداء ما قام به، غير أن موقفه ذاك ينبع من إحساس مواطن يعمل بتوجيه مباشر من ضميره وبعظم المسؤولية التي أوكلت إليه... ومن ثم كانت خدمة الحجيج شرف لهم جميعاً... إنه شرف... وأيما شرف!.
***
إحساسك الداخلي أنك فرد واحد ضمن أكثر من مليونين ونصف المليون حاج يؤدون أداء ما تود أن تؤديه أنت، في مكان واحد وعلى صعيد واحد وفي وقت واحد، يصيب الإنسان بالذعر، كيف تتم ضبط حركة كل هذه الأمواج البشرية، وقد تباينت ثقافاتهم، وتعددت لغاتهم واختلفت سحنهم وطبائعهم، ما السبيل لتوفير المعاش لهم من نزل وعلاج ورعاية... يرتفع همسي إلى تساؤل طريف إلى جاري في المسكن: ماذا لو تهت... وضعت وسط هذه الأمواج البشرية المتلاطمة... فيرد عليّ صديقي: لا تحمل هماً... فهناك فرق خاصة تولي مثل هذه "المسائل الصغيرة" عنايتها... يضحك رفيق الرحلة ويقول: ضع... وته كيفما تشاء... فالكشافة السعودية لك بالمرصاد، ستعيدك على حالتك إلى حيث تهت... الملاحظة الذكية من رفيق الرحلة نقلت عدوى الابتسامة والضحكة المتعبة إلى الجميع في حافلة ضيوف الرحمن التي هدأ محركها إيذاناً بدخولنا إلى أم القرى في مكة المكرمة.
قاصد نور البقع
الله... يا الله...
لبيك اللهم لبيك...
في السودان، أهزوجة يرددها مودعو حجاج بيت الله تقول: "قالوا الحجيج قطع... قاصد نور البقع" وتعني تهنئة حجاج بيت الله مسبقاً بنعمة هم في طريقهم إليها في (نور البقع) أرض المقدسات، عشرات الآلاف الذين وصلوا إلى نور البقع، توحدت أفئدتهم... وسمت نفوسهم وصار الوجدان المتعدد واللغة المختلفة، و"الرطانة" المتباينة في صعيد واحد...
مكة المكرمة لبست أزهى حللها... رجال المرور هنا لا ترهقهم الشمس اللاهبة، ولا يحد من مثابرتهم قيظ الصيف منتشرون كالنحل في الشوارع الفسيحة والضيقة على حد سواء، ينظمون حركة السير يفكون الاختناقات في ثوان معدودة.
في شارع رئيس مؤد للحرم المكي الشريف تعطلت سيارة صغيرة ووقف صاحبها يستنجد بالمارة، وفي دقائق جاءت "الفزعة" من رجلي أمن راحا يدفعان السيارة بينما جلس صاحبها على المقود شاكراً "فرج الله" الذي أتى إليه من حيث لا يحتسب!
من يجرؤ على طلب كهذا؟
كنا في الفندق، نشاهد وقائع المؤتمر الصحفي العالمي للأمير نايف بن عبد العزيز المسؤول الأول عن أمن ضيوف الرحمن وسلامتهم، سأله الصحفيون عن أقاويل وادعاءات كثيرة... لعل أطرفها أن المخابرات الأمريكية ستراقب الحج، ساد صمت عجيب لوبي الفندق الذي اكتظ بحجاج بيت الله، وفيهم نفر كثير احتل موقعه أمام الشاشة البلورية ليرى.. ويسمع كيف استعدت السعودية لهذا الموسم الحافل..
يقول الأمير نايف مجيبا على سؤال الصحفيين "من يجرؤ على طلب كهذا".. راح ضيوف الرحمن المتحلقون حول التلفاز, يرددون بصوت واحد "الله أكبر"
نعم.. من يجرؤ على طلب كهذا, فالسعودية التي تمثل قلب ووجدان الأمة لا تفرط في ثوابتها, ولا توكل أحدا لأداء مهمة تؤديها هي وتعتبرها بحق شرفا لها... بل إنني أجزم أن أي جهة غيرها لن تستطيع أن تنظم حركة الحجيج مثلها, فقد اكتسبت السلطات السعودية بتراكم سنين الخبرة, والمنهجية الدقيقة التي تتبعها, مقدرات كبيرة في تسيير أعمال الحج وفق الخطة الموضوعة التي تبدأ ملامحها بعد مغادرة نفرة موحدة أول فوج من المغادرين لمكة المكرمة.
في منى آلاف من الخيام البيضاء اللامعة تبدو للناظر من أعلى مثل حبات المسبحة عقد منظوم, شوارع مرتبة, خدمات صحيحة وعلاجية راقية... نقاط متعددة لا يمكن حصرها لرجال الدفاع المدني, وقد أخذوا مواقعهم في حالة الاستعداد تحسبا لأي طارىء قد يعكر صفو أيام الله.
وقد تعاملت هذه القوات في أعوام سابقة مع حالات للحريق, أشعلها اختلاف مفاهيم وعادات بعض الحجاج الذين جلبوا "أسطوانات للغاز" ... وضربوا مخيماتهم المجانية على قمم الجبال وسفوحها, غير أن السلطات السعودية كانت حازمة لمواجهة هذه الظاهرة, فكانت المتابعة الدقيقة والحسم الفوري لأي خروج عن النظم والقوانين التي تمس أمن ضيوف الرحمن وطمأنينتهم العامة.
الطقس الجميل, المعتدل ساهم مع عوامل كثيرة, في انسياب أداء المناسك وقد عاد باعة المثلجات في هذا العام كما ذهبوا... وكانت الجولة لصالح بوفيهات الشاي والقهوة والوجبات الساخنة.
المخيمات التي لا تكاد أن تفرق بينها, عرفت أنها استجلبت من الخارج وهي خيام مقاومة لا تشتعل, وقد تم ضربها على مراحل.. وفي هذا العام اكتمل العقد وأصبحت منى منطقة معزولة ضد الحريق والاشتعال.. والخيمة الواحدة, هي شقة مصغرة مقسمة إلى حجرات, ودورات مياه ومواقع للوضوء... مع أجهزة تكييف تقاوم هي الأخرى لظى الشمس وحر الظهيرة.
من منى إلى صعيد عرفات الطاهر طريق مسفلت تسلكه الحافلات, كيف سبيل الآلاف من السيارات إلى عرفات في نفرة موحدة ... في وقت واحد... واتجاه واحد وتأتي الإجابة عمليا: تتحرك الحافلة المكيفة ولا تعترضها إلا إشارات رجال المرور وملاحظاتهم الحازمة بالسير في الطريق المحدد والابتعاد عن التجاوز.. وفي الموقف الطاهر في صعيد عرفات تتجسد قيم المسؤولية والعطاء الذي لا يعرف الحدود..
"طلبة العلم"... وهم الدعاة الذين تبعثهم وزارة الشؤون الإسلامية والحج يجيبون على الاستفسارات ويصدرون الفتاوى ميدانيا لكل من اختلط عليهم الأمر.. وبين كل لحظة وأخرى تجوب شاحنات ضخمة الساحات والميادين توزع "مبرة خادم الحرمين الشريفين" وهي مياه مثلجة معبأة في قوارير أنشىء لها مصنع خاص تكلف به الملك فهد لسقيا ضيوف الرحمن.
التدافع في جسر الجمرات, وجهل بعض الحجاج بأصول النسك الصحيح يؤدي في كل عام إلى خسائر في الأرواح, وخاصة بعض المسنين... وفي هذا العام تمثلت الخسائر في عشرات من أجهزة الهواتف المحمولة التي قذف بها بعض الحجاج لرجم الشيطان وقد تنبهت السلطات السعودية إلى جهل البعض شروط صحة النسك فتوزع "طلبة العلم" - أي الدعاة - عند جسور الجمرات يقدمون النصح والإرشاد لحجاج بيت الله... وكان "للجامرين بأجهزة الهاتف المحمول" نصيب كبير من هذه الإرشادات.
حدثني أحد المرافقين عن صعوبات رمي الجمرات, وضحاياه الكثر, فتسلل إلى نفسي خوف إنساني لا مفر ولا بد منه في مثل هذا الموقف, غير أن انتشار رجال الأمن السعوديين وتحسبهم لكل طارئ أو احتمال بث الطمأنينة في نفسي وسارعت في موكب مهيب إلى الجسر... الذي احتاط له المختصون بالدراسات والأبحاث لمنع التزاحم والتدافع, في أعلى الجسر عشرات من الجنود بزيهم المميز يحملون المناظير المكبرة فيما ضرب العشرات منهم طوقا أمنيا صلبا لتفويج الحجاج إلى الجسر... في جانب آخر احتل عدد من الجنود موقعا بعيدا يرقبون منه الموقف وهؤلاء - كما عزمت من رفيق رحلة العمر - جاهزون للتدخل وإنقاذ أي متعثر... فجاء الرمي بفضل هؤلاء سهلا ميسورا مسح ما رسمته في خيالي من دماء... ووفيات ودهس.
إنها رحلة العمر,أعدت لها السعودية عدتها وعتادها, فحققت أملي وأمل كل متطلع لأداء الشعائر.. فنجحت في مهمتها بدرجة ممتازة واستحقت ثناء ودعاء كل من زار وادي الشعائر بيسر واطمئنان وهنا في السعودية, لا ينتظر أحد فيها كلمة ثناء وشكر, والمطلوب من كل حاج أن يلتزم بالضوابط التي تضعها هذه البلاد لتنظيم العودة وفق البرامج والخطط الموضوعة.
وإن كانت السعودية تعاني مثل غيرها من البلاد الجاذبة من المقيمين غير الشرعيين فإن من أوجب واجبات ضيوف الرحمن رد الدين الكبير لها انضباطا في العودة والتزاما بتنظيماتها في هذا الشأن.
للسعودية... وللسعوديين الذين بدأوا رحلة الاستعداد لحج العام القادم منذ الآن... أقول:
شكرا لبلد الرسالة!
تعليق