"كان يتأملها تُرضع زينب. الثدي الوردي المستدير الممتلئ يقترب من فم الطفلة . ينفتح الفم ويطبق على الحلمة . ويمتص بشبق . وتسيل قطرات من الحليب على جانبي الفم الصغير. ونظر كالمسحور . تختفي روضة وزينب . يرى أمامه بحيرة شاسعة من الحليب،يشرب منها كل أطفال العالم الجائعين . يختفي المشهد . يرى نفسه في صحراء قاحلة تغيم سماؤها ،فجأة ، وتمطر حليبا . تتحول كل قطرة بمجرد ملا مستها الرمل إلى أوزّة بيضاء تعود إلى السماء . يعود إلى الصالون الصغير . يرى ثدي روضة يتحول إلى رمانة حمراء هائلة ، يفتح باب في الرمانة ويدخل إلى قلب الرمانة ويتمشى حتى يقف أمام ينبوع يتدفق بالحليب الساخن ، يختفي المشهد ، ويرى أمامه جلجامش يناوله إبريقا مليئا بالحليب ويقول : " انكيدو ! اشرب! اشرب ! وجدت إكسير الحياة، اشرب ولن تموت ". يختفي المشهد ، ويرجعه صوت روضة إلى الصالون الصغير :
- يارجل ! ماذا أصابك ؟ ألم تر امرأة ترضع طفلتها من قبل؟
- لا . أعني لا أظن . أعني لا أتذكر . اعني لا .
تبتسم روضة ، وتعيد الطفلة النائمة إلى مهدها ،تخرج الكلمات من فمه قبل أن يفكر :
- هل بقي شيء؟
- تنظر إليه مستغربة، ويشعر بشيء يحرق وجنتيه ، ويصمت . إلا أنها تواصل النظر إليه ، ويقول:
- هل بقي شيء من الحليب ؟
تضحك روضة، وتقول :
- أنت فضولي ، يارجل ! تعال!
- ماذا؟
- تعال! تعال هنا !
يقترب منها ، ويجلس على ركبتيه ، وتمد يدها ، وتقرّب وجهه من نهدها الأيمن . تضع عينه بمحاذاة الحلمة ، وتهمس :
- انظر بنفسك !
فجأة تضغط بيدها على النهد ، وينطلق خيط من الحليب الدافئ إلى عينيه . يتراجع إلى الوراء ، مذهولا، وهو يصرخ . تضحك روض، وتضحك. تمر قطرة حليب قرب فمه . يصطادها بلسانه ، ويتمتم :
- جلجامش ! هل تكفي قطرة واحدة لشفائي ؟
تصمت روضة ، وتتجهم أساريرها ، وتسأله :
- ماذا قلت ، يارجل ؟ ماذا قلت ؟
يصمت . ويعلو صوتها :
- قلت شيئا عن الشفاء . أي شفاء؟! هل أنت مريض يارجل ؟!
تخرج الكلمات من فمه ، مترددة ، متثاقلة :
- روضة! شرد ذهني . تصورت نفسي أعيش ملحمة جلجامش . سمعت عن جلجامش؟ الأسطورة . البطل الذي يبحث عن أكسير الحياة الدائمة ليعيد صديقه أنكيدو إلى الحياة .
بدون أن تتكلم ، تقرّب وجهه من النهد . وتتحول الحلمة إلى فراشة تطير به إلى غابة خضراء . بين الأشجار يرى جلجامش في انتظاره ، وفي يده الإبريق يشرب ، ويحس بكل قطرة تتغلغل في عروقه ، وتبث البرء معها . قبل أن يغيب عن الوعي يسمع صدى تأوهات ناعمة قادمة من مكان بعيد ".
الدكتور يوسف إدريس ، له قصة قصيرة ، تعتبر من أحسن ما كتب في الأدب العربي في مجال القصة القصيرة ؛ طالبة جامعية ، تتفسح في ردهات الجامعة ، قريبة من مكتب عميد الكلية التي تدرس فيها ، ينظر إليها من نافذة مكتبه ، فتهتز مشاعر الفتاة العشرينية والعميد الأربعيني ، كل منهما نحو الأخر ، لدرجة لم يسبق لها مثيل .
هنا رواية مشابهه للدكتور غازي القصيبي ، يصف فيها معاناة رجل يخضع للعلاج من مرض خطير ، يشك في شفائه (السرطان ) ، يلتقي في آواخر أيام مرضه بفتاة من أجمل ما خلق الله ، تصغره بنصف عمره ، صدفة كانت تقرأ في رواية لم تعرف انها له : " النوم مع السراب" ،. يتعلق كل منهما بالآخر ويهيم به إلى درجة لا توصف رغم ظروفهما المختلفة ، فهي متزوجة ولها طفلة وهو مريض وعلى وشك الموت .. الخ الرواية.
في عطلة الحج هذا العام ، حصلت لي فرصة فريدة ، انقطعت في شاطئ منعزل عن العالم ، لم يكن في صحبتي إلا ما اخترته من كتب ، قرأت ما تيسر منها ، غير أن أجمل ماقرأت من ناحية الأسلوب والخيال هو المقطع الذي دونته أعلاه .
يلاحظ أن القاسم المشترك عند الدكتور يوسف ادريس والقصيبي وقبلهما الرافعي ، هو الفرق الواضح بين سن الرجل والمرأة ، ياترى ، هل هو تسلية أم تعزية ؟!
- يارجل ! ماذا أصابك ؟ ألم تر امرأة ترضع طفلتها من قبل؟
- لا . أعني لا أظن . أعني لا أتذكر . اعني لا .
تبتسم روضة ، وتعيد الطفلة النائمة إلى مهدها ،تخرج الكلمات من فمه قبل أن يفكر :
- هل بقي شيء؟
- تنظر إليه مستغربة، ويشعر بشيء يحرق وجنتيه ، ويصمت . إلا أنها تواصل النظر إليه ، ويقول:
- هل بقي شيء من الحليب ؟
تضحك روضة، وتقول :
- أنت فضولي ، يارجل ! تعال!
- ماذا؟
- تعال! تعال هنا !
يقترب منها ، ويجلس على ركبتيه ، وتمد يدها ، وتقرّب وجهه من نهدها الأيمن . تضع عينه بمحاذاة الحلمة ، وتهمس :
- انظر بنفسك !
فجأة تضغط بيدها على النهد ، وينطلق خيط من الحليب الدافئ إلى عينيه . يتراجع إلى الوراء ، مذهولا، وهو يصرخ . تضحك روض، وتضحك. تمر قطرة حليب قرب فمه . يصطادها بلسانه ، ويتمتم :
- جلجامش ! هل تكفي قطرة واحدة لشفائي ؟
تصمت روضة ، وتتجهم أساريرها ، وتسأله :
- ماذا قلت ، يارجل ؟ ماذا قلت ؟
يصمت . ويعلو صوتها :
- قلت شيئا عن الشفاء . أي شفاء؟! هل أنت مريض يارجل ؟!
تخرج الكلمات من فمه ، مترددة ، متثاقلة :
- روضة! شرد ذهني . تصورت نفسي أعيش ملحمة جلجامش . سمعت عن جلجامش؟ الأسطورة . البطل الذي يبحث عن أكسير الحياة الدائمة ليعيد صديقه أنكيدو إلى الحياة .
بدون أن تتكلم ، تقرّب وجهه من النهد . وتتحول الحلمة إلى فراشة تطير به إلى غابة خضراء . بين الأشجار يرى جلجامش في انتظاره ، وفي يده الإبريق يشرب ، ويحس بكل قطرة تتغلغل في عروقه ، وتبث البرء معها . قبل أن يغيب عن الوعي يسمع صدى تأوهات ناعمة قادمة من مكان بعيد ".
الدكتور يوسف إدريس ، له قصة قصيرة ، تعتبر من أحسن ما كتب في الأدب العربي في مجال القصة القصيرة ؛ طالبة جامعية ، تتفسح في ردهات الجامعة ، قريبة من مكتب عميد الكلية التي تدرس فيها ، ينظر إليها من نافذة مكتبه ، فتهتز مشاعر الفتاة العشرينية والعميد الأربعيني ، كل منهما نحو الأخر ، لدرجة لم يسبق لها مثيل .
هنا رواية مشابهه للدكتور غازي القصيبي ، يصف فيها معاناة رجل يخضع للعلاج من مرض خطير ، يشك في شفائه (السرطان ) ، يلتقي في آواخر أيام مرضه بفتاة من أجمل ما خلق الله ، تصغره بنصف عمره ، صدفة كانت تقرأ في رواية لم تعرف انها له : " النوم مع السراب" ،. يتعلق كل منهما بالآخر ويهيم به إلى درجة لا توصف رغم ظروفهما المختلفة ، فهي متزوجة ولها طفلة وهو مريض وعلى وشك الموت .. الخ الرواية.
في عطلة الحج هذا العام ، حصلت لي فرصة فريدة ، انقطعت في شاطئ منعزل عن العالم ، لم يكن في صحبتي إلا ما اخترته من كتب ، قرأت ما تيسر منها ، غير أن أجمل ماقرأت من ناحية الأسلوب والخيال هو المقطع الذي دونته أعلاه .
يلاحظ أن القاسم المشترك عند الدكتور يوسف ادريس والقصيبي وقبلهما الرافعي ، هو الفرق الواضح بين سن الرجل والمرأة ، ياترى ، هل هو تسلية أم تعزية ؟!
تعليق