مقــدمــة
ســأحاول في عدد من الموضوعات القادمة - بمشيئة الله - أن أرحل معكم عبر قصائد جنوبية تتميز بجمال الشقر وروعته دون اعتساف ولا تكلف حتى يبرز مافيها من جمال البناء وحسن التركيب ولنبرز لأولئك الموهوبين من شعراءنا - قدر الإمكــان - روعة وجودة فيض مشاعرهم
شروح وتعاريف
ــــــــــــــــ
1 / الشقر : الأمر المهم ويأتي بمعنى السر
الشقر : واحد و{ الشقور } هي الأمور الملتصقة بالقلب يقال أخبرته بشقوري أي أطلعته وأخبرته بأمري
2 / الاشتقاق في علوم العربية : صوغ كلمة من أخرى
شقق الكلام : ولد بعضه من بعض
3 / الجناس عند أهل البديع هو تشابه الكلمتين في اللفظ فقط ومنه التام وهو أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها مثل
السـاق والمساق
النــور والنـَّــور
الفتـــح والحـتف
مطـــر والمطــر
من روائع البهاء زهير في الجناس قوله :
أشكو وأشكر فعله ... فاعجب لشاك منه شاكر
طرفي وطرف النجم فيك ... كلاهما ساه وساهر
و قوله
يا ليل بدرك حاضر ... يا ليت بدري كان حاضر
حتى يبان لناظري ... من منهما زاه وزاهر
وما أحلى ما ختم القصيدة بقوله
بدري أرق محاسنا ... والفرق مثل الصبح ظاهر
وقول النابغة
لها نار جن بعد أنس تحولوا ... وزال بهم صرف النوى والنوائب
وله في رثاء قوله
فيا لك من حزم وعزم طواهما جديد ... الردى تحت الصفا والصفائح
وأرق ما سمعته في هذا الباب قول القائل
إن البكاء هو الشفاء ... من الجوى بين الجوانح
والشقر الذي يعنينا هنا هو الإتيان بكلمة أو اكثر في نهاية كل بيت من أبيات قصيدة البدع ومقابلتها بمثلها تختلف عنها في المعنى وتتفق معها في المبنى في نهاية كل بيت في قصيدة الرد .
وقد التزم كل الشعراء في بناءهم لقصائدهم بالشقر كأمر ضروري وإلزامي لا محيـد عنه في البدع والرد ومن أمثلة ذلك.
1 / جاره الله مل [ من ] الوقوف ومالوقود وحر شمسي
الرد
ونجــازي كـــــل مخـــلـوقــاً عـلـــيـنـا حـرّش أمسي
ــــــــــــــــ
2 / ومن شبابيك زمزم تسمع الصفق لـه
الرد
وإن كان قلبك كرهني لا توصـّف قله
ـــــــــــــــ
3 / جمــال قـلبـه مـريـض و الدوايــر تجـيـبـه
الرد
ماعيني أضيق وأزعل والدوا يرتجي به
لم أرى في حياتي شــاعر يمتلك ناصية القصيدة الشعبية كدغسان - رحمه الله - يصنع البدع كأنه نحات يجسم القصيدة على أي شكل يريد أو كأنه مهندس الطرق وهو ( يسفلت ) الطريق أمام الشاعر الأخر ليضع الطرف الأخر أو ما يسمى ( بالرد ) وهو متكئ على أريكته – جوار السائق - أو وهو يسير بأقصى سرعة ، فيأتي بكلمات الرد دون تلعثم أوتردد أو تواني ويصوغ الرد كما خطط له الشاعر الفنان دغسان .
إنها موهبة صناعة القصيدة بشقيها ( البدع والرد ) صناعة فنية ( حِـرفية ) سهلة ، ممتنعة ، ممتعة ، مقنعة ، لتدعك تحتار أي طرفيها الأجمل وأي طرفيها الأروع البدع أم الرد ..؟؟
يسبك الكلمات حتى تبدو كأجمل تحفة وكأروع باقة ورد في وسط خميلة
كلمات تحمل أجمل المعاني وأنبلها
يرصعها يأثمن الجواهر وأبدعها وأروع الأزاهير وأمتعها
أرأيت فنان يجمع بين اللآلئ والمجوهرات وروائع الزهر ..؟؟
إنه بالتأكيد علي دغسان
تقرأ قصيدته فتشعر أنك أمام نبع من الماء العذب الرقراق الذي ينساب كأنه الفضة المذابة وقد انعكست على صفحته السماء بزرقتها وصفائها وما يحيط بالماء من روائع الطبيعة ، وما أن ترتشف منها الجرعة حتى تلـتذ بروعة المذاق وما أن تسمعها كخرير الماء حتى تهتز طربا وأنسا .
لن أستطرد أكثر
وسأدع قصيدته – رحمه الله - تطــل علينا كما أرادها قوية صارخة لا هوادة فيها
يقـل عـلي بوس بـك يـا ذا لعـهـده بـاق بـيـس
يـظـل عـقــله وخـلــق الله عنـّه بـيـتـنــور
بوصيك لا تصــحب اللي جاه في عقله خليـل
وراعي الجهــل بالمشــعاب لاهــاج أرمعــه
الرد من محمد جهــاد [ ملاسـي ] تغمده الله بواسع رحمته
إن الحــجر جـابـه الله لـلـنـبـي من باقـبـيـس
موضوع أمـانـه وحــطـه ربـنـا للـبـيـت نور
هــذي مســايـل إلـهــــيـه كـرامـه للـخــلـيـل
ذا حــطّ ولـده على زمزم وهب هاجر معــه
كانت هاتان القصيدتان أسرع القصائد طرقاً لذاكرتي وأنا أبحث عن أجمل قصائد الشقر في شعر الجنوب - ربما لمصاحبتي لها اكثر من غيرها في حياتي اليومية – كما وأن جمال الشقر فيها قد سيطر على عقلي وقلبي ودفعني لأن أقدمها كأ نموذج حـيّ لما هدفت إليه في هذه السلسلة التي أنوي أن أسلط الضوء عبرها على روائع الشقر وجمالياته وروعة بناءه وجمال تركيباته وسلاسة ألفاظه في شعرنا الجنوبي .
البدع كان من الشاعر المبدع [ علي سعد دغسان أبو عالي ] رحمه الله وهو يوجهها إلى تؤامه وصديق عمره [ محمد بن جهاد ملاسي ] ولو كانت القصيدة بدعها وردها من شاعر واحد لقلنا بكل بساطة إن الشاعر قد فكر مليا وأعاد وكرر وغير وبدل في قرارة نفسه حتى استوت قصيدته على الجــودي ببدعها وردها وحقق مع ذاته ما يرمي إليه من البدع ليصل في الرد إلى الجماليات والمعاني التي يـبتغي وقد أعطى لنفسه وقصيدته كامل الوقت لتخرج كالحسناء في كامل زينتها وليس في هذا عيب ولا منقصة طالما أن الإبداع وجد له طريقاً إلى ما يقوله الشــاعر ولكن الأجمل والأبدع هو ذلك التجاذب والتمازج الإبداعي الذي ينسجه شاعران في بدع ورد في لحظة تجلي وانسكاب جمالي آخـّاذ يذهب بالعقول والألباب
هذا هو مطلع قصيدة دغسان رحمه الله
يقـل عـلي بوس بـك يـا ذا لعـهـده [ بــاق بـيـس ]
فهو ينتقص حالة خائن العهــد بل ويهجوه فيقول : بئس بخائن العهــد ويؤكده بالتأكيد اللفظي [ بئس ] التي تكررت في البيت مرتين وليهيئ لملاسي الرد بنفس الأحرف ولكن بمعنى أخر
إن الحــجر جـابـه الله لـلـنـبـي من [ باقـبـيـس ]
فتأمل [ بــاق بـيـس ] عند دغسان وتأمل[ باقـبـيـس ] عند ملاسي رحمهما الله نفس الأحرف ترتيبا وإعدادا وهيئة مع اختلاف في المعنى وكأن كل واحد منهم قد اخبر الأخر عبر قصيدته عبر[ التلبثي ] وهو أسلوب التخاطر بشــقـور قلبه وقد أعد كل منهم كلمة الشقر بل كامل البيت ليتوافق معه البيت الذي يليه.
فهما في قصيدتي البدع والرد قد اعتمدا وحدة القصيدة لا وحدة البيت
ثم انظر في قصيدة البدع كاملة عند دغسان وهل كان يتصور أحدنا لو كان حاضراً ميلاد هذه القصيدة أن دغســان - تغمده الله بواسع رحمته - عندما أبدعها كفكرة تعالج [ بــائــــق العهـــد وخائنــه ] كان يضــع في تصــوره أن الرد كان يجـــب أن يتضمن تلميحات من قصة بناء الكعبة المشرفة والخليل وهاجر وإسماعيل عليهم السلام ووفاءهما لعهدهما مع ربهما سبحانه
كلتا القصيدتان كانتا ذات وحدة موضوعية متناسقة متكاملة وكأني بمحمد ملاسي رحمه الله قد فهم في أسرع من لمح البرق مايهدف إليه دغســان فقدم له في رده مايـبـغـيه ويتمناه ويسعى إليه
إنهما بحــق قصيدتان لقضيتان ربــــط الشقر بينهما ربطــاً محكمـــا دون اعتســـاف
ولا تكلف ولا حشو فجاءت كلمات الشقر سهلة ميسرة متناسقة عذبة وتعطي المعنى الذي يريده الشاعران بالوفاء والتمام .
هاهو دغسان يرحمه الله ويرحم صاحبه يقول في البيت الثاني :
يـظـل عـقــله وخـلــق الله عنـّه [ بـيـتـنــور ]أن من يبوق بالعهد هو ظالّ العقل ولولم يكن ظال العقل لما خان العهد ولذلك فالنتيجة الحتمية إن خلق الله سيبتعدون عنه
أما ملاسي رحمه الله فإنه قد التزم في الرد بأمرين أن يأتي بالشقر المطابق تماما لكلمة دغسان الأخيرة في بيته ثم يستكمل حكاية [ الحجر الأسود ] نور البيت وبركته
موضوع أمـانـه وحــطـه ربـنـا [ للـبـيـت نور ]
وتأمل كلمتي الشاعران في البدع والرد
[ بـيـتـنــور ] بمعنى ابتعاد الناس و[ للـبـيـت نور ] ويقصد أن الحجر الأسود بمثابة النور للبيت ولكن تأمل هذه الروعة في الشقر بين الكلمات لتعرف القدرة الكبيرة والتسـا ووق الروحي والأدبي والجمالي بينهما والذي أوضحته كل كلمات الشقر في القصيدتين .
بوصيك لا تصــحب اللي جاه في عقله [ خليـل ]
ويصل دغسان إلى تقديم النصيحة والوصية وشن حملة غير مباشره على بائــق العهــد فهو في نظره مختل عقلياً ليس من حيث القدرات العقلية ولكن من حيث ميله وطبعه في عدم الوفاء بالعهد فمن يفكر بخيانة العهد وعدم إلزام نفسه بالوفاء به فإن لديه ضرب من الجنون وقد بادر الشاعر بتقديم نصيحة غالية وثمينه بعدم مصاحبته ومن يصحب الخائن إلا خـــائـن مثله ..؟؟
هــذي مســايـل إلـهــــيـه كـرامـه [ للـخــلـيـل ]
أما ملاسي فما زال يقوم بدوره التاريخي وما زال يقدم لنا هنا روعة الشقر الطبيعي
[ خليـل ] [ للـخــلـيـل ] فهل نرى من تفاوت بين الكلمتين إلا في المعنى الذي جاء في الأولى بمعنى [[ الخــــلل ] وجاء في الأخرى بمعنى [[ المصاحبة ]] .
وأخيــرا ًنصل إلى نهايـة القصيدتين ونصل معها إلى روعة الختــام وإلى أجمل بيتين في القصيدة حيث يحدد دغسان النهاية المنتظرة لبائق العهد الجاهل والظال فالمشعاب - بعد المقاطعة وعدم المصاحبة ولا غيرذلك - المشعاب فقط هو الدواء الناجع
وراعي الجهــل بالمشــعاب [ لاهــاج أرمعــه ]وهاهـو ملاسي يسير في سرده التاريخي ليخبرنا قائلاً :
ذا حــطّ ولـده على زمزم وهب [ هاجر معــه ]
[ لاهــاج أرمعــه ] و [ هاجر معــه ]
وسنظل نتــأمل ونستمتع بجماليات الشقر بينهما ونعيد ونكرر ذات الحروف وذات الترتيب وذات الهيئة في كلمتي الشقر ومع التزامهما بكل ذلك فإن الشقر لم يأتي على حساب المعنى أوعلى حساب اللغة أو على حساب التناسق اللفظي أو الجمالي فالشقر عندهما جاء ليزيد من سلاسة المعنى واندياح الموسيقى العامة في النص
تلك ازدواجية إبداعية صاغها لنا شــاعران موهوبان لتكتمل الصورة الفنية على اجمل مايكون .
رحم الله دغسان ورحم الله ملاسي
وإلى لقاء مع صورة من صور الشقر العذب الرائــع في شعر الجنوب .
وأستودعكم الله
ســأحاول في عدد من الموضوعات القادمة - بمشيئة الله - أن أرحل معكم عبر قصائد جنوبية تتميز بجمال الشقر وروعته دون اعتساف ولا تكلف حتى يبرز مافيها من جمال البناء وحسن التركيب ولنبرز لأولئك الموهوبين من شعراءنا - قدر الإمكــان - روعة وجودة فيض مشاعرهم
شروح وتعاريف
ــــــــــــــــ
1 / الشقر : الأمر المهم ويأتي بمعنى السر
الشقر : واحد و{ الشقور } هي الأمور الملتصقة بالقلب يقال أخبرته بشقوري أي أطلعته وأخبرته بأمري
2 / الاشتقاق في علوم العربية : صوغ كلمة من أخرى
شقق الكلام : ولد بعضه من بعض
3 / الجناس عند أهل البديع هو تشابه الكلمتين في اللفظ فقط ومنه التام وهو أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها مثل
السـاق والمساق
النــور والنـَّــور
الفتـــح والحـتف
مطـــر والمطــر
من روائع البهاء زهير في الجناس قوله :
أشكو وأشكر فعله ... فاعجب لشاك منه شاكر
طرفي وطرف النجم فيك ... كلاهما ساه وساهر
و قوله
يا ليل بدرك حاضر ... يا ليت بدري كان حاضر
حتى يبان لناظري ... من منهما زاه وزاهر
وما أحلى ما ختم القصيدة بقوله
بدري أرق محاسنا ... والفرق مثل الصبح ظاهر
وقول النابغة
لها نار جن بعد أنس تحولوا ... وزال بهم صرف النوى والنوائب
وله في رثاء قوله
فيا لك من حزم وعزم طواهما جديد ... الردى تحت الصفا والصفائح
وأرق ما سمعته في هذا الباب قول القائل
إن البكاء هو الشفاء ... من الجوى بين الجوانح
والشقر الذي يعنينا هنا هو الإتيان بكلمة أو اكثر في نهاية كل بيت من أبيات قصيدة البدع ومقابلتها بمثلها تختلف عنها في المعنى وتتفق معها في المبنى في نهاية كل بيت في قصيدة الرد .
وقد التزم كل الشعراء في بناءهم لقصائدهم بالشقر كأمر ضروري وإلزامي لا محيـد عنه في البدع والرد ومن أمثلة ذلك.
1 / جاره الله مل [ من ] الوقوف ومالوقود وحر شمسي
الرد
ونجــازي كـــــل مخـــلـوقــاً عـلـــيـنـا حـرّش أمسي
ــــــــــــــــ
2 / ومن شبابيك زمزم تسمع الصفق لـه
الرد
وإن كان قلبك كرهني لا توصـّف قله
ـــــــــــــــ
3 / جمــال قـلبـه مـريـض و الدوايــر تجـيـبـه
الرد
ماعيني أضيق وأزعل والدوا يرتجي به
لم أرى في حياتي شــاعر يمتلك ناصية القصيدة الشعبية كدغسان - رحمه الله - يصنع البدع كأنه نحات يجسم القصيدة على أي شكل يريد أو كأنه مهندس الطرق وهو ( يسفلت ) الطريق أمام الشاعر الأخر ليضع الطرف الأخر أو ما يسمى ( بالرد ) وهو متكئ على أريكته – جوار السائق - أو وهو يسير بأقصى سرعة ، فيأتي بكلمات الرد دون تلعثم أوتردد أو تواني ويصوغ الرد كما خطط له الشاعر الفنان دغسان .
إنها موهبة صناعة القصيدة بشقيها ( البدع والرد ) صناعة فنية ( حِـرفية ) سهلة ، ممتنعة ، ممتعة ، مقنعة ، لتدعك تحتار أي طرفيها الأجمل وأي طرفيها الأروع البدع أم الرد ..؟؟
يسبك الكلمات حتى تبدو كأجمل تحفة وكأروع باقة ورد في وسط خميلة
كلمات تحمل أجمل المعاني وأنبلها
يرصعها يأثمن الجواهر وأبدعها وأروع الأزاهير وأمتعها
أرأيت فنان يجمع بين اللآلئ والمجوهرات وروائع الزهر ..؟؟
إنه بالتأكيد علي دغسان
تقرأ قصيدته فتشعر أنك أمام نبع من الماء العذب الرقراق الذي ينساب كأنه الفضة المذابة وقد انعكست على صفحته السماء بزرقتها وصفائها وما يحيط بالماء من روائع الطبيعة ، وما أن ترتشف منها الجرعة حتى تلـتذ بروعة المذاق وما أن تسمعها كخرير الماء حتى تهتز طربا وأنسا .
لن أستطرد أكثر
وسأدع قصيدته – رحمه الله - تطــل علينا كما أرادها قوية صارخة لا هوادة فيها
يقـل عـلي بوس بـك يـا ذا لعـهـده بـاق بـيـس
يـظـل عـقــله وخـلــق الله عنـّه بـيـتـنــور
بوصيك لا تصــحب اللي جاه في عقله خليـل
وراعي الجهــل بالمشــعاب لاهــاج أرمعــه
الرد من محمد جهــاد [ ملاسـي ] تغمده الله بواسع رحمته
إن الحــجر جـابـه الله لـلـنـبـي من باقـبـيـس
موضوع أمـانـه وحــطـه ربـنـا للـبـيـت نور
هــذي مســايـل إلـهــــيـه كـرامـه للـخــلـيـل
ذا حــطّ ولـده على زمزم وهب هاجر معــه
كانت هاتان القصيدتان أسرع القصائد طرقاً لذاكرتي وأنا أبحث عن أجمل قصائد الشقر في شعر الجنوب - ربما لمصاحبتي لها اكثر من غيرها في حياتي اليومية – كما وأن جمال الشقر فيها قد سيطر على عقلي وقلبي ودفعني لأن أقدمها كأ نموذج حـيّ لما هدفت إليه في هذه السلسلة التي أنوي أن أسلط الضوء عبرها على روائع الشقر وجمالياته وروعة بناءه وجمال تركيباته وسلاسة ألفاظه في شعرنا الجنوبي .
البدع كان من الشاعر المبدع [ علي سعد دغسان أبو عالي ] رحمه الله وهو يوجهها إلى تؤامه وصديق عمره [ محمد بن جهاد ملاسي ] ولو كانت القصيدة بدعها وردها من شاعر واحد لقلنا بكل بساطة إن الشاعر قد فكر مليا وأعاد وكرر وغير وبدل في قرارة نفسه حتى استوت قصيدته على الجــودي ببدعها وردها وحقق مع ذاته ما يرمي إليه من البدع ليصل في الرد إلى الجماليات والمعاني التي يـبتغي وقد أعطى لنفسه وقصيدته كامل الوقت لتخرج كالحسناء في كامل زينتها وليس في هذا عيب ولا منقصة طالما أن الإبداع وجد له طريقاً إلى ما يقوله الشــاعر ولكن الأجمل والأبدع هو ذلك التجاذب والتمازج الإبداعي الذي ينسجه شاعران في بدع ورد في لحظة تجلي وانسكاب جمالي آخـّاذ يذهب بالعقول والألباب
هذا هو مطلع قصيدة دغسان رحمه الله
يقـل عـلي بوس بـك يـا ذا لعـهـده [ بــاق بـيـس ]
فهو ينتقص حالة خائن العهــد بل ويهجوه فيقول : بئس بخائن العهــد ويؤكده بالتأكيد اللفظي [ بئس ] التي تكررت في البيت مرتين وليهيئ لملاسي الرد بنفس الأحرف ولكن بمعنى أخر
إن الحــجر جـابـه الله لـلـنـبـي من [ باقـبـيـس ]
فتأمل [ بــاق بـيـس ] عند دغسان وتأمل[ باقـبـيـس ] عند ملاسي رحمهما الله نفس الأحرف ترتيبا وإعدادا وهيئة مع اختلاف في المعنى وكأن كل واحد منهم قد اخبر الأخر عبر قصيدته عبر[ التلبثي ] وهو أسلوب التخاطر بشــقـور قلبه وقد أعد كل منهم كلمة الشقر بل كامل البيت ليتوافق معه البيت الذي يليه.
فهما في قصيدتي البدع والرد قد اعتمدا وحدة القصيدة لا وحدة البيت
ثم انظر في قصيدة البدع كاملة عند دغسان وهل كان يتصور أحدنا لو كان حاضراً ميلاد هذه القصيدة أن دغســان - تغمده الله بواسع رحمته - عندما أبدعها كفكرة تعالج [ بــائــــق العهـــد وخائنــه ] كان يضــع في تصــوره أن الرد كان يجـــب أن يتضمن تلميحات من قصة بناء الكعبة المشرفة والخليل وهاجر وإسماعيل عليهم السلام ووفاءهما لعهدهما مع ربهما سبحانه
كلتا القصيدتان كانتا ذات وحدة موضوعية متناسقة متكاملة وكأني بمحمد ملاسي رحمه الله قد فهم في أسرع من لمح البرق مايهدف إليه دغســان فقدم له في رده مايـبـغـيه ويتمناه ويسعى إليه
إنهما بحــق قصيدتان لقضيتان ربــــط الشقر بينهما ربطــاً محكمـــا دون اعتســـاف
ولا تكلف ولا حشو فجاءت كلمات الشقر سهلة ميسرة متناسقة عذبة وتعطي المعنى الذي يريده الشاعران بالوفاء والتمام .
هاهو دغسان يرحمه الله ويرحم صاحبه يقول في البيت الثاني :
يـظـل عـقــله وخـلــق الله عنـّه [ بـيـتـنــور ]أن من يبوق بالعهد هو ظالّ العقل ولولم يكن ظال العقل لما خان العهد ولذلك فالنتيجة الحتمية إن خلق الله سيبتعدون عنه
أما ملاسي رحمه الله فإنه قد التزم في الرد بأمرين أن يأتي بالشقر المطابق تماما لكلمة دغسان الأخيرة في بيته ثم يستكمل حكاية [ الحجر الأسود ] نور البيت وبركته
موضوع أمـانـه وحــطـه ربـنـا [ للـبـيـت نور ]
وتأمل كلمتي الشاعران في البدع والرد
[ بـيـتـنــور ] بمعنى ابتعاد الناس و[ للـبـيـت نور ] ويقصد أن الحجر الأسود بمثابة النور للبيت ولكن تأمل هذه الروعة في الشقر بين الكلمات لتعرف القدرة الكبيرة والتسـا ووق الروحي والأدبي والجمالي بينهما والذي أوضحته كل كلمات الشقر في القصيدتين .
بوصيك لا تصــحب اللي جاه في عقله [ خليـل ]
ويصل دغسان إلى تقديم النصيحة والوصية وشن حملة غير مباشره على بائــق العهــد فهو في نظره مختل عقلياً ليس من حيث القدرات العقلية ولكن من حيث ميله وطبعه في عدم الوفاء بالعهد فمن يفكر بخيانة العهد وعدم إلزام نفسه بالوفاء به فإن لديه ضرب من الجنون وقد بادر الشاعر بتقديم نصيحة غالية وثمينه بعدم مصاحبته ومن يصحب الخائن إلا خـــائـن مثله ..؟؟
هــذي مســايـل إلـهــــيـه كـرامـه [ للـخــلـيـل ]
أما ملاسي فما زال يقوم بدوره التاريخي وما زال يقدم لنا هنا روعة الشقر الطبيعي
[ خليـل ] [ للـخــلـيـل ] فهل نرى من تفاوت بين الكلمتين إلا في المعنى الذي جاء في الأولى بمعنى [[ الخــــلل ] وجاء في الأخرى بمعنى [[ المصاحبة ]] .
وأخيــرا ًنصل إلى نهايـة القصيدتين ونصل معها إلى روعة الختــام وإلى أجمل بيتين في القصيدة حيث يحدد دغسان النهاية المنتظرة لبائق العهد الجاهل والظال فالمشعاب - بعد المقاطعة وعدم المصاحبة ولا غيرذلك - المشعاب فقط هو الدواء الناجع
وراعي الجهــل بالمشــعاب [ لاهــاج أرمعــه ]وهاهـو ملاسي يسير في سرده التاريخي ليخبرنا قائلاً :
ذا حــطّ ولـده على زمزم وهب [ هاجر معــه ]
[ لاهــاج أرمعــه ] و [ هاجر معــه ]
وسنظل نتــأمل ونستمتع بجماليات الشقر بينهما ونعيد ونكرر ذات الحروف وذات الترتيب وذات الهيئة في كلمتي الشقر ومع التزامهما بكل ذلك فإن الشقر لم يأتي على حساب المعنى أوعلى حساب اللغة أو على حساب التناسق اللفظي أو الجمالي فالشقر عندهما جاء ليزيد من سلاسة المعنى واندياح الموسيقى العامة في النص
تلك ازدواجية إبداعية صاغها لنا شــاعران موهوبان لتكتمل الصورة الفنية على اجمل مايكون .
رحم الله دغسان ورحم الله ملاسي
وإلى لقاء مع صورة من صور الشقر العذب الرائــع في شعر الجنوب .
وأستودعكم الله
تعليق