نَعَمْ سَرَى طَيفُ مَنْ أهوَى فَأَرَّقَنِي والحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذاتِ بالألَمِ
كتب الله لي التشرف بزيارة المسجد النبوي الشريف وأكرمني جل في علاه بالسلام على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما .
مكثت في طيبة الطيبة أيام من أحلى ما يعد من أيام في حياتي ،كيف لا وأنا أحظى كل صباح ومساء بالسلام على الحبيب وصاحبيه ، وأنعم بالصلاة في الروضة الشريفة .
تجولت في ربوع المدينة أتتبع خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم
أنى حل بالمدينة أو ارتحل
وذات مساء وجدتني وجها لوجه أمام جبل ( ســــلع )، الجبل الذي كان للرسول عليه أزكى الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم عنده صولات وجولات من خلال أحداث غزوة الخندق .
وقد كان لجبل ســلع شرف الإطلال على أ ماكن وأجزاء من الخندق الذي أشار بحفره سلمان الفارسي رضي الله عنه ووافقه المصطفى عليه سلام الله تصديا لعدوان الكفر ........ وبقية القصة معروفة
و يحتضن جبل سلع المساجد السبعة التي طالما حدثني عنها والدي – رحمه الله وتغمده بفيض عفوه وواسع غفرانه- وكانت أحاديث والدي عنها أحد الدوافع للوقوف في هذا المكان المبارك وأن أطأ بقدمي بعض أثار الحبيب وصحبه وقد تمكنت من زيارة بعض تلك المساجد التي صلى فيها الرسول أو أصحابه أثناء عملية حفر الخندق كمسجد الفتح الذي بشر فيه جبريل عليه السلام النبي محمد بالنصر ومسجد سلمان صاحب فكرة حفر الخندق . وكلمة [ سلع ] تنطق بكسر السين ، والقدماء يفتحونها ، وقد يكسرونها : جاء في كثير من مثاني السيرة ، وهو أشهر جبال المدينة على صغره ، حتى أنه يفوق أحدا شهرة على كبر أحد وقدسيته .
ويكاد الأقدمون يصرفون كل ذكر أو شعر يذكر فيه ( سلع ) إلى سلع المدينة هذا ، بينما توجد سلوع أخر في الحجاز ، منها سلع مكة : جبل بطرف المغمس من الغرب ، وسلع آخر في ديار بلي .
وسلع المدينة هو الذي عليه النص هنا ، وهو : جبل صغير أصبح يحيط به عمرانها من كل اتجاه ، بل وقد كساه هو من معظم جوانبه . وقد أكثر الشعراء من ذكره . فقال قيس بن ذريح :
لعمرك إنني لأحب سلعا لرؤيته ومن بجنوب سلع
تقر بقربه عيني ، وإني لأخشى أن يكون يريد فجعي
حلفت برب مكة والمصلى وأيدي السابحات غداة جمع
لأنت - على التنائي - فاعلميه أحب إلي من بصري وسمعي
وجبل سلع هذا أخذ بتلابيب عقلي ووجداني وفؤادي وأكتسح قلبي بفيض من المشاعر الجياشة وأنا أقف على قمته متذكرا ومتأملا .
تذكرت هنا ممن تذكرت أبي - رحمه الله - وهو يعتاد المساجد السبعة في كل عام يصلي فيها وهو الأمي الذي لم تتح له ظروف عصره أن يتعلم وأن ينعم بقراءة صفحات معطرة من تاريخ الإسلام ومع ذلك فقد عوضه الله بزيارة سنوية لكثير من السفر الخالد لمدينة المصطفى كمسجده وروضته ومسجد قباء وجبل أحد و الرماة ووادي العقيق.
ســألت نفسي بماذا عبـّر مـن مروا هنا قبلي بهذه التجربة وهذا الموقف من أرباب البيان
وما ذا قالوا وأبدعوا عن ســـلع هذا الجبل الذي يحتل مكانة عالية في قلوب المسلمين ..؟؟
تتبعت مشاعرهم وبحــثت عن عواطفهم وعذب كلماتهم وسرى خيالي معهم أردد أشعارهم وأتخيل أخيلتهم ورؤاهم ويلهج لساني بأشعارهم وبينما خيالي معهم إذ قرع مسمعي صوت الشاعر على ابن الطيب الشرقي الفاسي وهو يدندن بصوت رخيم حزين:
قِبابُ قُباءٍ تلكمُ أم قَبا سَلعِ تبدّت فَشَقَّت مُهجَتيَّ بما سَلعِ
وذاكُم سَنا الأفراحِ حول مُفَرِّحٍ تَنَقَّلَ من لَمحٍ خفِيٍّ إلى لَمعِ
وهل ذاكمُ وادي العقيقِ الذي غَدا عقيقُ دموعي بَعدَهُ دائمَ الهَمعِ
فما لهمُ في حسنهِم من مُماثِلٍ وما ليَ في أهلِ الصبابةِ من سِلعِ
قالها علي ومضى وتركني أدندن بها بعده ولم أفق ولم أتوقف عن الترديد والدندنة حتى طرق سمعي ابن الوردي ليأخذني بشعره وحديثه إلى عالمه قائلاً :
أدرْ أحاديثَ سلعٍ والحمى أدرِ والْهَجْ بذكرِ اللِّوى أو بانِهِ العطرِ
واذكرْ هبوبَ نسيمِ المنحنى سحراً لما تمرُّ على الأزهارِ والغُدْرِ
وقلْ عنِ الجزعِ واذكرني لساكنِهِ لعلَّ بالجزعِ أعواناً على السهرِ
وصفْ جنانَ قبا واختمْ بطيبةَ ما سامرْتني فَهْوَ عندي أطيبُ السمرِ
منازلٌ كُسيتْ بالمصطفى شرفاً بأفضلِ الخلقِ مِنْ بدوٍ ومِنْ حضرِ
قلت يابن الوردي وهل هناك أحاديث تدار هنا أطيب من أحاديث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وتلفت حين لم أسمع إجابته ففوجئت
بابن حجر العسقلاني فسألته بما يذكرك سلع هذا
فأجاب على الفور :
يُذكّرني سَلعٌ وَرامَةُ عهدكم وَلَكِن بِأَشجاني أُغَصُّ وَأَجرَعُ
وَقَد أَشبهَ الدَمعُ العَقيقَ بِسَفحِهِ فَها هوَ أَضحى مِن عُيونيَ يَنبعُ
عَسى أَن يَعودَ الوَصلُ قالَت عَواذلي وَكَم ذا أُماريهم وَهَيهاتَ أَن يعوا
آه يابن حجر حتى أنت - ياصاحب الفكر والعلم – تبكي بدمع كالعقيق قلت له ذلك فجاوبني عنه ابن خاتمة الأندلسي
أشاقكَ سَلْعٌ أم هَفَتْ بك ذِكْراهُ فَساعاتُ هذا اللَّيلِ عِنْدكَ أشْبَاهُ
وهل ذا البُريْقُ التاحَ من نَحْوِ رامةٍ وإلّا فَلِمْ باتَتْ جفونُكَ تَرْعاهُ
نَعمْ شاقَني سَلعٌ وذكرى عُهودِه فآهٌ لأيامٍ تَقَضَّتْ بهِ آهُ
وما القَصْدُ سَلْعٌ أنْ نظرتَ ورامَةٌ ولكنْ لِجَرِّي من غَدا فيهِ مثواهُ
أُحِبُّ وَميضَ البرقِ قصْدَ جِهاتِه وأهْوى نَسِيْمَ الرِّيحِ مِن أجل مَسراهُ
توقفت فالكل هنا يذرف الدمع ويسكب العبرات وتشتعل في فؤاده من حب سلع نيران ونيران فتنطلق آهاته الحرى بصدق المشاعر وصدق العواطف
لكنها دموع الفخر ودموع الرضا ودموع لايشبهها دموع أخرى
تعليق