رغم أن هذا الموضوع قد نشر في جريدة المدينة قبل سنوات ، وأختاره لنا عزيزنا أبو غازي من ضمن مختاراته في المنتدى ، إلا أنني رأيت أن أعيد نشره مرّة أخرى حسب وعدي حيث قد لحق بنص القصيدة تحريف لايليق ولا يتفق مع المنطق لأي شاعر كان فكيف إذا كان هذا الشاعر هو بن ثامرة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحراً" ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي أساطين البيان أربعة: أولهم - وهو الذي يعنينا هنا - هو "شاعر سار شعره".
والشاعر من وجهة نظر علم النفس هو: إنسان جوهر روحه حسن التعبير. إذ هو يحول كل مشاعره أو تأثراته إلى تعابير تنضح بالوجدان، وتفصح عن ذلك بأبلغ البيان ، تتراءى له الحياة أثرا فنياً منه يمتاح بما أوتي من موهبة بها يتفرد في الإبداع. انه في الحقيقة يتحسس الطبيعة حية، ويلمس الحياة معطاء. وانسجاماً مع ذلك فهو يوجه نحو هذه الغاية جميع وظائفه النفسية.
والشاعر ينقل أحاسيسه الداخلية من الخيال ومن الواقع، ينقلها إلى حقيقة مصفاة والى صور حية منتقاة.
ومن هنا يأتي الإطراب والإمتاع، وكل ذلك إنما يصدر عن ابتكار يتسم بالا صالة والطلاقة والقدرة في المرونة المطواع. والابتكار لا يسلم قياده إلا إلى عبقرية مقومات لبابها ذكاء ونشاط نفسي، ذكاء وتأثر وجداني.
إذا كان علم النفس كما رأينا يُعَرِّف الشاعر بأنه :إنسان جوهر روحه حسن التعبير. فلنتوقف عند هذا التعريف. ولننتقل إلى الشعر نفسه، فكما يقول الدكتور (علي الجسماني) في كتابه ( سيكولوجية الإبداع ) :" إن الشعر عمل إبداعي، وهو في الوقت ذاته فن". والفن كما تعرفه دائرة المعارف "نشاط تلقائي ومضبوط"..
ويوصف فن الشعر بأنه ارقي مظهر للطبيعة الإنسانية. ونحن إذ نقول هنا: إن الشعر عمل إبداعي لدينا ما يؤيد ما ذهبنا إليه، ففي شعر الجنوب شاهد على انه كذلك، فالقصيدة عند شعراء منطقة الباحة مثلا تنقسم إلى قسمين أو إلى طرفين، الطرف الأول ويسمى بدعا والطرف الثاني يسمى ردا أو ردودا وبذلك تسمى قصيدة.
وغالبا ما يجسد الشاعر المبدع إبداعه أو بدعه في فكرة يلتقطها فيجعل منها متعة للشخص العادي، فالأنواء أو الناوي كما يعبر عنه في بعض القصائد وهو مفرد أنواء، يثير منظره بسحبه وبروقه ورعوده والودق الذي يخرج من خلاله وما يصاحب سيوله من نقل للأحجار وقلع للأشجار والبرد الذي يصيب الثمار، يثير ذلك المنظر في نفس الشاعر المبدع من الصور والأحاسيس والمشاعر غير ما يثيره لدى الفرد الاعتيادي الذي لا يرى في ذلك إلا أن السماء قد أمطرت مطرا غزيرا. وقس على ذلك منظر غروب الشمس في وقت الأصيل وشروقها في الصباح الجميل والتقاء جيش بآخر والشجاعة والكرم وغيرهما من الصور التي ينقلها إلينا الشاعر المبدع في صور بلاغية جميلة.
وبعد وتحاشيا لإغراء الاستطراد كما يقال وبعد أن خلصنا من هذه المقدمة إلى أن الشعر عمل إبداعي يمثل رقيا في دنيا البشر، وان الشاعر إنسان جوهر روحه حسن التعبير فإنني ارفع هنا سؤالا وهو: هل الشعر في وقتنا الحاضر يمثل رقيا في حياتنا؟ وهل أرواح شعرائنا اليوم جوهرها حسن التعبير؟؟ هذا السؤال اترك الإجابة عليه للشعراء أنفسهم.
بعد هذه المقدمة التي كان لا بد منها والى أن يجيب شعرائنا على هذا التساؤل من خلال ما نسمعه منهم في الصيفية القادمة إن شاء الله. تعالوا لنعيش مع شاعر كان يوجه جميع وظائفه النفسية نحو غاية السمو بالشعر إلى الدرجة التي تليق به.
يقول الثوابي:
يا سلامي عدّ سيل لا مضى وادي عياس ماح
وان ندر من ديرة أهل الحجز ما ظلّى يدمّ بنا دمْ
وان مضى من خبت مشرف ما بقى بعده حيا وانزاه
وان مضى ما لأحسبه خلّى عرق ممنا وراش دقايم
مثل سيل الجمعة ذا وطّا فعايل في أول وتلين
وان مضى من خبت قرما له سمال لسّت ارمام أثله
ونصوبه محجفه والبرق والراعد يلوع ليه
تعالوا نقرأ ما أبدعه الشاعر محمد بن ثامرة في الطرف الأول الذي يسمى بدعاً كما ذكرنا سابقا. إنها فكرة خطرت في بال هذا الشاعر المبدع فنقلها إلينا في أحسن الصور. فالقصيدة هنا لها مناسبة وهي خلاف كان قد حصل بين الشاعر والشيخ راشد بالرقوش، والشاعر هنا يريد الصلح إلا انه يؤجل الكلام عنه إلى الطرف الثاني أو الرد ، أما في البدع فانه يبدأ في البيت الأول ليقرأ السلام على الحاضرين بعدد السيل الذي يصفه من غزارته انه إذا مضى من وادي عياس المعروف بديرة بالطفيل في تهامة، لو مضى من هذا الوادي لامتاحه في طريقه أو لمحاه من الوجود، أما إذا نزل من ديرة أهل الحجز التي هي جبال السراة فإنه لن يدم أو يرفق بأحد، وإذا مضى السيل الغزير من وادي الاحسبه المعروف باتساعه لترك بعده عَُرق بلاد أهل ممنا وراش دقايم. أي الجدران التي على المزارع ستصبح كمن فقد معظم أسنانه فأصبح أدقم. وينتقل من هذا التشبيه البليغ إلى إخبارنا بأن هذا السيل شبيه بسيل يوم الجمعة الذي ترك أثرا واضحا في الأولين والتالين. ويمضي الشاعر في رسم النصوب التي هي الغيوم المتراكمة وان البرق والرعد لا تزال تثير الرعب وتنذر بمزيد من الأمطار وكأنه يصف لنا ما نرى اليوم من فيضانات موزنبيق إلا أن هذا الإبداع كله كان الهدف منه إقراء الحاضرين السلام الذي يريد إبلاغه للناس بقدر ما وصفه لنا عن السيل وما صاحبه من صور رسم فيها الشاعر أجمل اللوحات ونقله إلينا في صور حية منتقاة.
وبعد أن أبدع الشاعر الإنسان هذه اللوحة الجميلة عن تحياته وغزرها وحرارتها للحاضرين والتي شبهها بالسيل الذي لم يترك في طريقه شيئا إلا وترك أثرا فيه ، وكذلك يريد تحياته أن يبقى لها اثر عند الناس. ينتقل إلى الرد أو الطرف الثاني الذي سيكمل الناحية الأخرى من الصورة:
والله إنا ما لفينا إلا لدرب الصلح والسماح
غير حن إبليس لا منه تعلق فوق قلب ابن آدم
اشتغل قلبه بكثر الوسوسة لين أنشبه وانزاه
ونحن يا زهران ما نرضى ولا شيخ وراشد قايم
لو رمى عالطير قرّت والحصى تخجل منه وتلين
والذي يلمح لدرب العافية فإن الستر ما مثله
وخيار الناس منه مات والله ساتر عليه
ولن نتعب كثيرا في قراءة الطرف الآخر فهو واضح لمن لديه قلب أو ألقى السمع وهو شهيد،وقد أتضح الهدف هنا من أن الشاعر كما ذكرنا يريد الصلح من الشيخ المشهور راشد بن الرقوش ولكن لاحظ هذه الروح عند هذا الشاعر العملاق التي جوهرها ليس حسن التعبير فحسب بل يتعدى ذلك إلى ضخامة الهدف ووضوحه. فلو قرأنا البيت الأول لوجدناه بدأ بقسم انه لا يريد إلا أن يسلك طريق السلامة والأمان فالصلح خير، والمسامح كريم، ثم تعالوا لنتأمل الصورة التي نقلها إلينا في البيت الثاني، حيث طوع اللغة ووظف المفردة بشكل ليس له مثيل، فالتشبيه البليغ هنا في تعليق إبليس لعنه الله فوق قلب ابن آدم، قد رسم لنا به الشاعر لوحة فنية أصبح معها غموض (بي كاسو ، وسلفا دور دالي، ودا فنشي ، وحتى فان جوخ)، أصبح غموضهم واضحا مع ما رسمه لنا هنا محمد بن ثامرة، حيث استعمل كل ألوان الطيف ولكن بشكل مقلوب وكأنه ينظر إليها من السماء وليس من الأرض، فقد استبدل الكسرة بالفتحة فجعل التعليق هنا يأتي من فوق الشيء وليس من تحته، مع أننا نعرف دائما أن التعليق هو (في ) وليس (فوق) إلا في لغة محمد بن ثامرة الذي جعل ظرف المكان يصبح مكانا وزمانا في آن واحد، ولكن بأسلوب لا يجيده إلا هو، ولن استرسل في الشرح لكي لا أطيل، ولكن لنسأل أنفسنا. ماهو إحساسنا، وكيف يكون شعورنا ونحن نسمع مثل هذا الإبداع؟ ألا نستسلم لمبدأ هذا الشاعر ونرضخ لمطالبه ونسير على منهجه، ثم ماذا عن النشء الذي يسمع مثل هذه المفردات الغنية بالمعنى والجميلة في المبنى، ألا تثرى لغته، وتستثير همته؟
بلى: فالشاعر المبدع لا يستمتع وحده بما يبعث فيه نوازع الإبداع فيبدع وحسب بل يؤثر تأثيرا وجدانيا في من يسمع شعره ويتأمله، فيشعر بنشوة من الإحساس الانفعالي تشده إلى ذلك الشاعر المبدع والى ما أبدعه. وهذا ما ميز المبدعين أمثال محمد بن ثامرة عن الذين لم ترتفع بهم أعمالهم عن مراوغة الابتذال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن من البيان لسحراً" ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي أساطين البيان أربعة: أولهم - وهو الذي يعنينا هنا - هو "شاعر سار شعره".
والشاعر من وجهة نظر علم النفس هو: إنسان جوهر روحه حسن التعبير. إذ هو يحول كل مشاعره أو تأثراته إلى تعابير تنضح بالوجدان، وتفصح عن ذلك بأبلغ البيان ، تتراءى له الحياة أثرا فنياً منه يمتاح بما أوتي من موهبة بها يتفرد في الإبداع. انه في الحقيقة يتحسس الطبيعة حية، ويلمس الحياة معطاء. وانسجاماً مع ذلك فهو يوجه نحو هذه الغاية جميع وظائفه النفسية.
والشاعر ينقل أحاسيسه الداخلية من الخيال ومن الواقع، ينقلها إلى حقيقة مصفاة والى صور حية منتقاة.
ومن هنا يأتي الإطراب والإمتاع، وكل ذلك إنما يصدر عن ابتكار يتسم بالا صالة والطلاقة والقدرة في المرونة المطواع. والابتكار لا يسلم قياده إلا إلى عبقرية مقومات لبابها ذكاء ونشاط نفسي، ذكاء وتأثر وجداني.
إذا كان علم النفس كما رأينا يُعَرِّف الشاعر بأنه :إنسان جوهر روحه حسن التعبير. فلنتوقف عند هذا التعريف. ولننتقل إلى الشعر نفسه، فكما يقول الدكتور (علي الجسماني) في كتابه ( سيكولوجية الإبداع ) :" إن الشعر عمل إبداعي، وهو في الوقت ذاته فن". والفن كما تعرفه دائرة المعارف "نشاط تلقائي ومضبوط"..
ويوصف فن الشعر بأنه ارقي مظهر للطبيعة الإنسانية. ونحن إذ نقول هنا: إن الشعر عمل إبداعي لدينا ما يؤيد ما ذهبنا إليه، ففي شعر الجنوب شاهد على انه كذلك، فالقصيدة عند شعراء منطقة الباحة مثلا تنقسم إلى قسمين أو إلى طرفين، الطرف الأول ويسمى بدعا والطرف الثاني يسمى ردا أو ردودا وبذلك تسمى قصيدة.
وغالبا ما يجسد الشاعر المبدع إبداعه أو بدعه في فكرة يلتقطها فيجعل منها متعة للشخص العادي، فالأنواء أو الناوي كما يعبر عنه في بعض القصائد وهو مفرد أنواء، يثير منظره بسحبه وبروقه ورعوده والودق الذي يخرج من خلاله وما يصاحب سيوله من نقل للأحجار وقلع للأشجار والبرد الذي يصيب الثمار، يثير ذلك المنظر في نفس الشاعر المبدع من الصور والأحاسيس والمشاعر غير ما يثيره لدى الفرد الاعتيادي الذي لا يرى في ذلك إلا أن السماء قد أمطرت مطرا غزيرا. وقس على ذلك منظر غروب الشمس في وقت الأصيل وشروقها في الصباح الجميل والتقاء جيش بآخر والشجاعة والكرم وغيرهما من الصور التي ينقلها إلينا الشاعر المبدع في صور بلاغية جميلة.
وبعد وتحاشيا لإغراء الاستطراد كما يقال وبعد أن خلصنا من هذه المقدمة إلى أن الشعر عمل إبداعي يمثل رقيا في دنيا البشر، وان الشاعر إنسان جوهر روحه حسن التعبير فإنني ارفع هنا سؤالا وهو: هل الشعر في وقتنا الحاضر يمثل رقيا في حياتنا؟ وهل أرواح شعرائنا اليوم جوهرها حسن التعبير؟؟ هذا السؤال اترك الإجابة عليه للشعراء أنفسهم.
بعد هذه المقدمة التي كان لا بد منها والى أن يجيب شعرائنا على هذا التساؤل من خلال ما نسمعه منهم في الصيفية القادمة إن شاء الله. تعالوا لنعيش مع شاعر كان يوجه جميع وظائفه النفسية نحو غاية السمو بالشعر إلى الدرجة التي تليق به.
يقول الثوابي:
يا سلامي عدّ سيل لا مضى وادي عياس ماح
وان ندر من ديرة أهل الحجز ما ظلّى يدمّ بنا دمْ
وان مضى من خبت مشرف ما بقى بعده حيا وانزاه
وان مضى ما لأحسبه خلّى عرق ممنا وراش دقايم
مثل سيل الجمعة ذا وطّا فعايل في أول وتلين
وان مضى من خبت قرما له سمال لسّت ارمام أثله
ونصوبه محجفه والبرق والراعد يلوع ليه
تعالوا نقرأ ما أبدعه الشاعر محمد بن ثامرة في الطرف الأول الذي يسمى بدعاً كما ذكرنا سابقا. إنها فكرة خطرت في بال هذا الشاعر المبدع فنقلها إلينا في أحسن الصور. فالقصيدة هنا لها مناسبة وهي خلاف كان قد حصل بين الشاعر والشيخ راشد بالرقوش، والشاعر هنا يريد الصلح إلا انه يؤجل الكلام عنه إلى الطرف الثاني أو الرد ، أما في البدع فانه يبدأ في البيت الأول ليقرأ السلام على الحاضرين بعدد السيل الذي يصفه من غزارته انه إذا مضى من وادي عياس المعروف بديرة بالطفيل في تهامة، لو مضى من هذا الوادي لامتاحه في طريقه أو لمحاه من الوجود، أما إذا نزل من ديرة أهل الحجز التي هي جبال السراة فإنه لن يدم أو يرفق بأحد، وإذا مضى السيل الغزير من وادي الاحسبه المعروف باتساعه لترك بعده عَُرق بلاد أهل ممنا وراش دقايم. أي الجدران التي على المزارع ستصبح كمن فقد معظم أسنانه فأصبح أدقم. وينتقل من هذا التشبيه البليغ إلى إخبارنا بأن هذا السيل شبيه بسيل يوم الجمعة الذي ترك أثرا واضحا في الأولين والتالين. ويمضي الشاعر في رسم النصوب التي هي الغيوم المتراكمة وان البرق والرعد لا تزال تثير الرعب وتنذر بمزيد من الأمطار وكأنه يصف لنا ما نرى اليوم من فيضانات موزنبيق إلا أن هذا الإبداع كله كان الهدف منه إقراء الحاضرين السلام الذي يريد إبلاغه للناس بقدر ما وصفه لنا عن السيل وما صاحبه من صور رسم فيها الشاعر أجمل اللوحات ونقله إلينا في صور حية منتقاة.
وبعد أن أبدع الشاعر الإنسان هذه اللوحة الجميلة عن تحياته وغزرها وحرارتها للحاضرين والتي شبهها بالسيل الذي لم يترك في طريقه شيئا إلا وترك أثرا فيه ، وكذلك يريد تحياته أن يبقى لها اثر عند الناس. ينتقل إلى الرد أو الطرف الثاني الذي سيكمل الناحية الأخرى من الصورة:
والله إنا ما لفينا إلا لدرب الصلح والسماح
غير حن إبليس لا منه تعلق فوق قلب ابن آدم
اشتغل قلبه بكثر الوسوسة لين أنشبه وانزاه
ونحن يا زهران ما نرضى ولا شيخ وراشد قايم
لو رمى عالطير قرّت والحصى تخجل منه وتلين
والذي يلمح لدرب العافية فإن الستر ما مثله
وخيار الناس منه مات والله ساتر عليه
ولن نتعب كثيرا في قراءة الطرف الآخر فهو واضح لمن لديه قلب أو ألقى السمع وهو شهيد،وقد أتضح الهدف هنا من أن الشاعر كما ذكرنا يريد الصلح من الشيخ المشهور راشد بن الرقوش ولكن لاحظ هذه الروح عند هذا الشاعر العملاق التي جوهرها ليس حسن التعبير فحسب بل يتعدى ذلك إلى ضخامة الهدف ووضوحه. فلو قرأنا البيت الأول لوجدناه بدأ بقسم انه لا يريد إلا أن يسلك طريق السلامة والأمان فالصلح خير، والمسامح كريم، ثم تعالوا لنتأمل الصورة التي نقلها إلينا في البيت الثاني، حيث طوع اللغة ووظف المفردة بشكل ليس له مثيل، فالتشبيه البليغ هنا في تعليق إبليس لعنه الله فوق قلب ابن آدم، قد رسم لنا به الشاعر لوحة فنية أصبح معها غموض (بي كاسو ، وسلفا دور دالي، ودا فنشي ، وحتى فان جوخ)، أصبح غموضهم واضحا مع ما رسمه لنا هنا محمد بن ثامرة، حيث استعمل كل ألوان الطيف ولكن بشكل مقلوب وكأنه ينظر إليها من السماء وليس من الأرض، فقد استبدل الكسرة بالفتحة فجعل التعليق هنا يأتي من فوق الشيء وليس من تحته، مع أننا نعرف دائما أن التعليق هو (في ) وليس (فوق) إلا في لغة محمد بن ثامرة الذي جعل ظرف المكان يصبح مكانا وزمانا في آن واحد، ولكن بأسلوب لا يجيده إلا هو، ولن استرسل في الشرح لكي لا أطيل، ولكن لنسأل أنفسنا. ماهو إحساسنا، وكيف يكون شعورنا ونحن نسمع مثل هذا الإبداع؟ ألا نستسلم لمبدأ هذا الشاعر ونرضخ لمطالبه ونسير على منهجه، ثم ماذا عن النشء الذي يسمع مثل هذه المفردات الغنية بالمعنى والجميلة في المبنى، ألا تثرى لغته، وتستثير همته؟
بلى: فالشاعر المبدع لا يستمتع وحده بما يبعث فيه نوازع الإبداع فيبدع وحسب بل يؤثر تأثيرا وجدانيا في من يسمع شعره ويتأمله، فيشعر بنشوة من الإحساس الانفعالي تشده إلى ذلك الشاعر المبدع والى ما أبدعه. وهذا ما ميز المبدعين أمثال محمد بن ثامرة عن الذين لم ترتفع بهم أعمالهم عن مراوغة الابتذال.
تعليق