ودّع العقاد حبه لفتاة أحلامه التي كانت تعيش بضاحية عين شمس على مقربة من مصر الجديدة حيث عاش الكاتب الكبير حتى أخريات أيامه في الحياة الدنيا ...ودّعه وهو يعتقد أنه سوف لا يعرف تلك المرارة التي كان يسببها له عالم المرأة ممثلا في بعض من بنات حواء . ولكن كيوبيد شيطان مريد فلم يشأ أن يتركه بعيدا عن حواء وعن العلاقة معها ...
فقد شاء أن يعلق قلبه بحب فتاة سمراء دعجاء العينين كانت في العشرين من عمرها وكان هو قد تجاوز الخمسين بقليل .
كانت أحداث تلك العلاقة في عام 1939م . وهو العام الذي شُغلت الدنيا فيه بحرب طاحنة . وقد سجل العقاد قصة هذا الحب في ديوانه " أعاصير مغرب" الذي يدل اسمه على موضوعه ..ألم يكن مثل هذا الحب بالنسبة لرجل في سنه اشبه بالأعاصير التي تهب على مغرب حياة الإنسان !؟
لذلك نراه يخاطب كيوبيد اللعين الذي بدأ يتسلل إلى نفسه بعد أن ودعها من زمن ليس بالقليل :
نفض النعاس فؤاده وصبا *** وصحا، فمال ، فهام ، فاضربا
ونفى السآمة بعد ما بلغت *** منه المشاش وعــــــــاود اللعبا
وجرى الذي ماكان يحسبه *** يوما يكون ، وطالما حســـبا
في توبة الخمسين يشــغله *** وجه ، ويمــــلأ صدره رعبـا
ثم يخاطب تلك الفتاة الهيفاء الممشوقة القوام والتي جاوزت العشرين من العمر فيقول :
هذا الصغير على غرارته *** يدري النفاق ويحسن الأدبا
وتراه في العشرين مستبقا *** وتراه في الخمسين مصطحبا
سأضمه رفقا ، وأوسعه *** برا ، وأملك قلبه حدبا
ويقيم لا أخشى كنانته *** السهم أخطأ والحسام نبا
لقد كان هذا الحب في نظر العقاد من عجائب الحياة لا سيما وأن الليالي قد أطفأت منه شعلة بعد شعلة . فليس من المتصور – والحال هذه – أن يومض النور ؛ نور الحب في ذلك القلب . والمعروف أن العقاد قد عاب على شاعر الألمان الكبير " جيته " حبه في سن الشيخوخة فقال له :
ياصديقي القديم " جيتي" اعتذارا *** لك من سوء ظنتي وملامي
كنتُ أنعى عليك حبك في الستين *** بنت العشرين ، فاغفر ملامي
وهاهو بعد أن عاش هذا النوع من الحب يقول :
عجبا والدهر لا يفني أعاجيب الحياة
مفرق شاب يشب الحياة في قلب فتاة
شرك صاد – ولم أنصبه صيّاد البزاة
ويغدو هذا الحب عند العقاد غير مصدق لذلك يقول إن إنسانا آخر لو جاءه ليقول له ذلك لما صدقه فيقول :
لو لسان قاله لي *** لم أصدق ما يقول
غير أن الشوق في خديك يسري ويجول
مزهرا بعد ذبول *** مشرقا بعد أفول
قسم فاه به قلبك ، *** بل وحي نزل
لقد أتى هذا الوحي إلى العقاد ونزل عليه وهو كافر بالناس شاك فيهم جميعا فيقول :
أحوج الوحي إلى معجزة وحي عجاب
عند قلب كافر بالناس يغلو في ارتياب
يارسول الحب آمنت ، وفي كفي الكتاب
طفلة تهفو إلى الشيب؟ أجل ثم أجل
وتلمّح له السمراء بحبها له . ولكنه لا يثق فيه لما بين عمريهما من سنين ، ثم يصبح التلميح منها بعد ذلك تصريحا فيعرفه الناس ويحدث اللقاء فيقول :
حين لمّحت تغابيت ، ولي والله عذر
وانثنى التلميح كالتصريح والشك مصر
ثم طاش السر حتى كاد يسعى ، وهو جهر
وتلاقينا فماذا كان ؟ بركان جفل
ويصف العقاد هذه السمراء بأن عباقرة الزمان قد أسرفوا في طهيها وقدموها له على مائدة الحب ، فلا يرضى لها بعد ذلك الهوان فيقول :
مائدة أسرف في طهيها *** عشرين عاما عبقري الزمان
أكرمنا الطاهي بها ساعة *** فكيف بالمكرم يلقى الهوان
لقد غدت أيام العقاد حبه للسمراء كلها ربيعا مزهرا مليئا بالقبل التي أشبعت هذا الحب الرضيع فيقول :
شد ما غذّته في نشأته ***قبلات تشبع الحب الرضيع
سنة كانت ربيعا كلها *** بين روض يتغنى ويضوع
لقد كان هذا الحب بالنسبة للعقاد مثل عودة الربيع في يوم خريف لأن حب الشيخوخة أعمق من حب الشباب ، ولأن أقصى أماني النفس هي الأشياء التي يعز رجوعها إلى عالم الواقع الملموس .
ـــــــــــــــــــــــــ
** يتبع إن شاء الله
تعليق