أيهما قتل الآخر >>>>أ.د/ناصر بن سليمان العمر
مقال الاثنين
أيهما قتل الآخر
أ.د/ناصر بن سليمان العمر
4/1/1423
18/03/2002
جاء في صحيح مسلم عن صهيب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ( كان مَلِكٌ فيمَنْ كان قبلكم ، وكان له ساحرٌ ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً يعلمه ، فكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه ، فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحرَ مرّ بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحرَ ضربه فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيتَ الساحرَ فقل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناسَ ، فقال : اليوم أعلم الساحرُ أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهمّ إن كان أمر الراهبُ أحبَّ إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناسُ ، فرماها فقتلها ، ومضى الناسُ ، فأتى الراهبَ فأخبره ، فقال له الراهب : أيْ بُنيَّ ، أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستُبتلى ، فإن ابتُليتَ فلا تدلّ عليّ ، وكان الغلامُ يُبْرئ الأكْمهَ والأبرص ويداوي الناسَ من سائر الأدواء ، فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ فإن أنت آمنت بالله دعوتُ اللهَ فشفاك فآمن بالله فشفاه اللهُ ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : مَنْ ردَّ عليك بصرَكَ ؟ قال : ربّي ، قال : أوَ لكَ ربٌّ غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الغلام ؛ فجيء بالغلام ، فقال له الملكُ : أي بني قد بلغ من سحرك ما تُبْرئُ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ ، فأخذه فلم يزلْ يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدعا بالمئشار فوضع المئشارَ في مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبلَ ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئتَ ، فرجف بهم الجبلُ فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم اللهُ ، فدفعهم إلى نفر من أصحابه ، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحرَ ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به ، فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئتَ ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم اللهُ ، فقال للملك : إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناسَ في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي،،،
ثم ضع ِالسهْمَ في كبد القوسِ ثم قل : باسم الله ربّ الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلتَ ذلك قتلتني ، فجمع الناسَ في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ٍ ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهمَ في كبد القوس ، ثم قال : باسم الله ربّ الغلام ، ثم رماه فوضع السهمَ في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناسُ : آمنا برب الغلام ،،، آمنا برب الغلام ،،، آمنا برب الغلام ، فأُتيَ الملكُ فقيل له : أرأيتَ ما كنتَ تحذرُ ؟ قد ، والله نزل بك حذرُك ، قد آمن الناسُ فأمر بالأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران ، وقال : مَنْ لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها ، فتقاعستْ أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمّة اصبري فإنك ِ على الحقّ )) .
كلما بعد الناس عن عهد النبوة ، ازدادت حاجتهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ، يتفيئون في ظلالهما ، ويشربون من معينهما ، ويهتدون بهديهما ؛ التزاماً بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ( تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي ) ففيهما الشفاء والغناء والهدى .
وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة ؛ من تكالب أعدائها عليها ورميهم إياها عن قوس واحدة ، وحيث دبّ الوهنُ واليأس في قلوب بعض المسلمين ، وآخرون حادوا عن الحكمة ، وضلوا عن سواء السبيل ، فقد قمتُ بدراسة حديث الغلام وأصحاب الأخدود ، ووجدت فيه من الوقفات والدروس والعبر ما أراه علاجاً ناجعاًًًًً لكثير من مشكلات الأمة ، ومن هنا رأيت أن أضع هذه الدراسة أمام أحبتي ؛ لتكون لهم زاداً في الطريق ، وعوناً على تخطي العقبات والصعاب ، وتجاوز بنيات الطريق ، وسلوكاً لنهج الحكمة " ومن يؤتَ الحكمة فقد آوتي خيراً كثيراً " .
فأقول مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه ؛ سائلاً إياه التوفيقَ والسداد :
1) ما أشبه الليلة بالبارحة ، فاستخدام السحرة من قِبل أهل الدنيا قديم ، وكثير من زعماء العالم ـ اليوم ـ يستخدمون السحرة وأشباه السحرة ، بل إن بعض ما يتخذه هؤلاء من قرارات مبني على ما يقوله السحرة ويدعونه ، وهو ضلال وإفساد في الأرض ، والله لا يُصلح عمل المفسدين ، وكلما بعد الناس عن الدين والهدى والوحي الصادق ؛ لجأوا إلى أمثال هؤلاء السحرة والكهّان ، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل
2 ) أن الأرض لا تخلو من مؤمن بالله ، ولا يكون خلوّها من المؤمنين إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة ، وعندما بُعِثَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان هناك من الحنفاء ؛ كورقة وغيره ، ولذلك كان هذا الراهب على الدين الصحيح ، في أمة لا تعرف لها رباً إلا الملك ، مع أنه قد يكون في البلدان الأخرى من المؤمنين مَنْ لا نعلمهم.
3 ) جواز تخفّي الإنسان بدينه إذا خاف على نفسه ، ولذلك لم يكن الملك يعرف عن هذا الراهب شيئاً ، ولذلك قال الراهب للغلام ( فلا تدل عليّ ) ، وكان في مكة أناس مؤمنون يتخفّون بدينهم ، قال سبحانه : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " .
4 ) أن هذا الراهب كان يعمل في السرّ ؛ حيث يدعو إلى التوحيد وعبادة الله ، وهذا من أدلة جواز العمل سراً إذا اقتضت المصلحة ذلك ، والأدلة في ذلك كثيرة جداً ، كما في دار الأرقم ، ودعوى النسخ لا دليل عليها ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ،ومن الأدلة على ذلك حديث حذيفة : (( فابتُلينا حتى أصبح أحدنا لا يصلي إلا سراً )) ، ويدل على ذلك قوله تعالى : " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصرَ بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين "
5 ) جواز الكذب عند الخوف على النفس ظلماً ، وبخاصة أمام العدو .
6 ) أهمية التربية الفردية ؛ حيث إن هذا الغلام الذي أحيا اللهُ به أمة ً ؛ نتاج تربية الراهب ، ومن أقوى أسباب بقاء الإسلام في روسيا بعد قيام الشيوعية هو التربية الفردية سراً ، بل هكذا قام الإسلام أوّلاً.
7 ) ذكاء هذا الراهب وفراسته ، حيث توسّّم في هذا الغلام النجابة َ والأهلية لقيادة أمته ، وإخراجها من الظلمات إلى النور ، فكانت فراستُه في محلها ، وتوقّعُه في موضعه.
وهكذا يجب أن يعتنيَ المربّون بتلاميذهم ، ويختارون منهم مَنْ يُتوقّع أن يكون لهم دورٌ في قيادة أمتهم وريادتها ، ويُعدّونهم لذلك كما أعد الراهبُ الغلامَ .
8 ) صحة الكرامات ، وأن الله يُجريها على يد مَنْ يشاء من عباده المؤمنين ، وهي وسيلة من وسائل النصر والتأييد والتثبيت ، ومع أهمية الإيمان بها ، يجب البعد عن الغلو فيها ، والاعتماد عليها ، كما لا يجوز إنكارها ، أو التقليل من شأنها ، فلا غلوّ ولا جفاء ، ولا إفراط ولا تفريط.
9 ) الابتلاء سنة ماضية ، وكما أخبر ورقةُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيُبْتلى ، كذلك أخبر هذا الراهبُ الغلامَ ، وهي سنة جارية ، فالمرءُ يُبتلى على قدر دينه ، وهو مصداق قوله سبحانه : " ألم * أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصريحة في هذا الشأن ، ولذا فعلى الدعاة إلى الله أن يُعدّوا أنفسهم لذلك ، ولا يعلم المسلم من أين يأتيه البلاء ،،، نسأل اللهَ السلامة والعافية .
10) قوة توحيد هذا الغلام ؛ حيث أعاد الفضلَ لأهله ، فقال : (( إنما يشفي اللهُ )) وهذا دليل على إيمانه وصدقه وتجرده .
11) أهمية استخدام النعم التي يكرم الله بها المرءَ في الدعوة إلى الله والترفع عن الدنيا وحطامها ، حيث استثمر الغلامُ إكرامَ الله له بشفاء المرضى من أجل خدمة دينه وعقيدته ، بينما هناك آخرون يستخدمون دينهم من أجل دنياهم ، بل من أجل دنيا غيرهم ، وهناك من جعل العلم والدعوة وسيلة للتكسّب وجمع الحطام (( يبيع دينَه بعرض من الدنيا )) ، وقد استثمر يوسفُ ـ عليه السلام ـ نعمة َ(( تعبير الرؤيا )) من أجل دعوة أهل السجن ، وإظهار براءته ، وبعد ذلك سياسة الأمة ، وقيادتها بالعدل والتوحيد .
12 ) أنه لا مانع من إخبار الإنسان بما هو مقدم عليه من بلاء أو فتنة ، حتى يستعد لذلك ، ولا يُفاجأ به ، حيث إن ذلك من وسائل التثبيت ، والصبر على الأذى ، وقد أخبر يوسفُ أحدَ صاحبي السجن بما سيحصل له ، وكذلك أخبر ورقة رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأخبر الإمامُ الشافعيُّ الإمامَ أحمد بما سيحصل له من بلاء بناءً على رؤيا رآها وهو في مصر ، فأرسل إلى أحمد في ذلك.
13) نِعْمَ الجليسُ جليسُ هذا الملك الذي حمد نعمة َالله عليه ، وكان جريئاً بالحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم ، وفقد منصبه ومكانته ، بل ضحى بكل متع الدنيا ، وتحمل الأذى والتعذيب ثم الموت ، ونال الشهادة في سبيل الله ، فهنيئاً له ،،، ولا نامت أعين الجبناء والمنافقين والمتكسّبين بالدين ،،، " فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ".
14) شجاعة الغلام وقوته في الحق أمام هذا الملك الظالم ، حيث أعلن توحيده ، وثبت عليه ، ولاقى في ذلك ما لاقى
15) أنه لا لوم على من دل ظالماً على مسلم إذا كان هذا بسبب الأذى والتعذيب مما لا طاقة له به ، فالإنسان له حد في التحمل والصبر ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولا يجوز أن نلوم من عذره الله ، ولذلك لم يلم ِ الغلامُ جليسَ الملك ، ولا الراهبُ الغلامَ ، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد بذل الوسع والطاقة ، واستنفاذ الفرص
16) مع خوف الراهب من الملك ، وإشفاقه من الأذى ، فقد ثبت ثباتاً عجيباً ، وصمد صموداً نادراً ، وهو يمثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا )) ، وقد نال الشهادة في سبيل الله صابراً محتسباً ؛ مقبلاً غير مدبر.
وكذلك فعل بالجليس فلم يصده عن دينه مع حداثة عهده بالإسلام ، وطول مجالسته للملك ، فلقي ربه صابراً محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، وكذلك بشاشة ُ الإيمان إذا خالطت القلوب تمكّنتْ منها ، وفي قصة الجليس وإيمانه وقتله شبه ٌبقصة سحرة فرعون ،،، رحمهم الله أجمعين .
17) إكرام الله للغلام بهذه الكرامات من أجل أن يتم أمر الله في نصرة دينه وإعلاء كلمته على يديه ، ويشرع للمؤمن أن يسأل الله أن يمده بكرامات من عنده ؛ تثبيتاً لقلبه ، وبرهاناً في دعوته ، وكبتاً لأعدائه وخصومه ، وقد سأل إبراهيم ـ عليه السلام ـ ربه ، فقال : " ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " ، وسأل بنو إسرائيل عيسى ـ عليه السلام ـ أن يسأل الله لهم أن ينزل عليهم مائدة من السماء " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " فسأل عيسى ـ عليه السلام ـ ربه فاستجاب له " قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ".
ويدخل في ذلك : القَسَم على الله ، فمن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
18) تأمل هذا الدعاء الجامع : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) وهو أولى من كثير من الأدعية التفصيلية حيث إن تفويض الأمر لله يغني عن اجتهاد البشر ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، والخير كل الخير فيما يختاره الله وقد يختار الإنسان في دعائه لهلاك عدوه أمراً لا يتحقق فيه ما أراد " وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، بل قد يكون فتنة له وبلاء ، وقد قيل للحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
19 ) كيف عرف الغلام أن الملك لن يستطيع أن يقتله ، وأن طريقة قتله هي كما ذكر مع أنه ليس بنبي ؟ قد يكون ذلك إلهاماً ؛ حيث ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن فيمَنْ قبلنا محدّثون ، والظاهر أن هذا منهم ، وهي كرامة من الله له ، يدل على ذلك ما سبق من كرامات منذ صغره ؛ ابتداء من هدايته على يد الراهب وما تلا ذلك حتى قتل ـ رحمه الله ـ.
20) في هذا الحديث دليل على جواز العمليات الاستشهادية ، فإذا كان هذا الغلام قد دلّ الملك على مقتله من أجل مصلحة غلب على ظنه تحققها ، فمن باب أولى جواز الإقدام على ما فيه نكاية بالعدو ، وتحقيق مصالح كبرى ، ولو كان في ذلك قتل النفس ، والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، والقول بالعمليات الاستشهادية له ضوابط ، ليس هذا مكان تفصيلها ، ومن أهمها : غلبة الظن على تحقق النكاية بالعدو ، وإرهابه ، والحد من طغيانه ، على ألا يترتب على ذلك مفاسد تغلب على تلك المصالح ، ولذلك لا بد أن يكون القرار للقيام بمثل تلك الأعمال صادراً عن جهات تتوافر فيها شروط الأهلية لاتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة .
21)قال سيد ـ رحمه الله ـ : ( في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان وأن الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة .
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئاً آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان ، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان ، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة . إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق ، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده ، تشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس ـ أيضاً ـ إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة ، وليست شيئاً آخر على الإطلاق ، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ) أ . هـ
ما أحوجنا إلى هذا الفهم الذي يؤصل قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وليس هو البقاء على ظهر الأرض والعيش فيها ، فكم من قتيل قد انتصر ، وكم من حيّ قد انهزم ويعيش كما تعيش الأنعام ، بل أضل سبيلاً
يا شيــــــخ ُصبراً مضت أيامنا دولاً
كم من(قتيل)علا والخصم في الحفر
22) عجيب أمر هذا الغلام ! لماذا دلّ الملكَ على مقتله ؟ ولماذا ، وقد منعه الله من كيدهم لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه ، ويدل الناس على الدين الحق ، ويُبقي على حياته سالماً ؟ هذا سؤال يتبادر إلى الأذهان والفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار ، وإلا لو تأملت قليلاً لوجدت أن الغلام قد سلك بفعله طريق أعظم الانتصارات والمجد والخلود .
** إن الغلام قد أدرك بتوفيق من الله وحده ـ أن كلمة واحدة في لحظة حاسمة صادقة ، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين .
إن الحياة موقف ، يتميز فيها الصادق من غيره ، وقد سنحت فرصة ثمينة لا يجوز تفويتها ، ولا يليق تبرير ضياعها ، وكما قيل : إذا هبت رياحك فاغتنمها ، وقد هبت رياح هذا الغلام ، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه وإنقاذ قومه وعشيرته من النار ، ولو دفع حياته ثمناً في سبيل تحقيق هذه الغاية ، وما أرخصها من نفس في سبيل تحقيق هذا الهدف العظيم .
** إنه انتصار الفهم ، وانتصار الإرادة ، وانتصار العقيدة ، عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة ، وحياة صادقة ، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره .
إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة ، وموقف واحد :
ـ انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
ـ وانتصر بقوة إراداته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطّياً جميع العقبات ، مستعلياً على الشهوات وحظوظ النفس ، ومتع الحياة الدنيا .
ـ وانتصر على هذا الملك الذي أعمى الله بصيرته ، فأخرب ملكه بيده لا بيد غيره ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
إن الغلام أقدم على ذلك وهو يعي حقيقة ما يفعل ، أما المَلِك فأعمته سَكْرة ُالمُلْك ، وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام ؛ في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد ، وحيت أمة ، بل حتى الفرد لم يمت ،،، " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".
ـ وانتصر الغلام عندما وقع وتحقق ما كان يتصوره ويتوقعه ويخطط له ، وقدم نفسه من أجله ، فآمن الناس وقالوا جميعاً : آمنا بالله رب الغلام .
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ وسلامة التقدير ، نجاح باهر وفوز ظاهر ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
ـ وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، فكل الناس يموتون ، ولكن القليل منهم مَنْ يستشهدون.
ـ وأخيراً انتصر عندما خلّد اللهُ ذِكْرَه فيمن بعده ؛ قدوة وأسوة وذكراً حسناً للأجيال فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.
23) وتتويجاً لهذه الانتصارات المتلاحقة تأتي نهاية القصة عندما آمن الناس برب الغلام ، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت ، وهنا جُنّ جنون الملك وفقد صوابه ، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف ، في محاولة يائسة للإبقاء على هيبته وسلطانه ، وتعبيد الناس له من دون الله.
فها هو يحفر الأخاديد ، ويوقد النيران ، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين فيها ، وهنا تأتي المفاجأة المذهلة ، فبدل أن يضعف من يضعف ، ويهرب من يهرب ، لا تسجل الرواية أن أحداً منهم تراجع أو جَبُنَ أو هرب.
بل نجد الإقدام والشجاعة والاقتحام ، وكأن الغلام قد بثّ فيهم البطولة والثبات ، وها هم يجدّون في اللحاق به ، وهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم ، تموت الأجسام وتحيا عند خالقها .
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية ، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها ـ لا على نفسها ـ وحُقَّ لها أن تخاف ، حيث إن ذلك رحمة وشفقة ًلا جُبْناً وخوفاً ، ولكنها قد أرضعته الإيمانَ والشجاعة والإقدام ، فطلب منها الإقدام فأقدمت .
وإذا كانــتِ النفوسُ كباراً
تعبتْ في مرادها الأجسامُ
24) أي أمة تلك ؟ وأي قوم أولئك ؟ مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام ، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك ، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان فقد عرفوا المنهج حق المعرفة ، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره ، أو تربّوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ، ولامس الأرواح يفعل العجب .
لقد رأينا في قصة الراهب وجليس الملك والغلام انتصاراً فردياً ، ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصاراً جماعياً ، قلَّ أن يحدث له في التاريخ مثيلاً كما حدث لسحرة فرعون " فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين ".
إن كل هذه الانتصارات المتلاحقة ثمرة طبيعية لصفاء العقيدة ، ووضوح المنهج ، وسلامة الطريق ، ومن ثم الفهم العميق لحقيقة الانتصار.
فهل يعي ذلك أولئك الذين يروْن أن حياتهم تحت حماية عدوهم بذل واستصغار مع شيء قليل من حطام الدنيا ؛ خير لهم من الموت بشرف وعزّ وكرامة .
مَنْ يهنْ يسهل ِالهوانُ عليه
ما لجـــــــــرح ٍبميّتٍ إيلامُ
وصدق عنترة :
لا تــــــــسقِني ماءَ الحياةِ بذلّةٍ
بلْ فاسقني بالعزّ كأسَ الحنظل
25 ) وقبل أن نغادر هذه القصة العجيبة يرد سؤال في الأذهان :
ماذا حلّ بهذا الملك وحاشيته وجنده ؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله ممن قتلهم ؟ إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذِكْر لهؤلاء الظلمة ، وماذا كان مصيرهم في الدنيا ، ولله في ذلك حكم قد تخفى علينا . نعمْ ،،، وردتْ آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " . ولكن سنة الله الجارية" فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وقال سبحانه لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون " . وَوعْدُ الله ِالذي لا يتخلف : " إن ربك لبالمرصاد " . والعزاء للمؤمنين على مرّ الأجيال : " إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً * فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً " . والحذر الحذر من اليأس والقنوط وسوء الظن بالله : " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " ، " ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون " . " ولا تحسبنّ الله مخلفَ وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ".
وبعد :
أخي الكريم ، وبعد هذه السياحة في هذه القصة العجيبة ، والجولات البطولية ؛ التي لم يلتبس فيها الحق بالباطل ، ولا النور بالظلام ـ اسأل نفسك بتجرّد :
مَن الذي انتصر في هذه المعركة الفاصلة ؟
أهو المَلِك أم الغلام ؟
هل انتصر الملأ أو المؤمنون ؟
والتاريخ يُعيد نفسَه ، وتتغير الرسوم والأشخاص والدول ، وتبقى الحقائق والثوابت والمبادئ .
" إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
أبو أنس
أعذروني على الإطالة وعدم الاختصار حتى لا أغير في كلام الشيخ حفظه الله
مقال الاثنين
أيهما قتل الآخر
أ.د/ناصر بن سليمان العمر
4/1/1423
18/03/2002
جاء في صحيح مسلم عن صهيب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ( كان مَلِكٌ فيمَنْ كان قبلكم ، وكان له ساحرٌ ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً يعلمه ، فكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه ، فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحرَ مرّ بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحرَ ضربه فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيتَ الساحرَ فقل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناسَ ، فقال : اليوم أعلم الساحرُ أفضل أم الراهب أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهمّ إن كان أمر الراهبُ أحبَّ إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضي الناسُ ، فرماها فقتلها ، ومضى الناسُ ، فأتى الراهبَ فأخبره ، فقال له الراهب : أيْ بُنيَّ ، أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستُبتلى ، فإن ابتُليتَ فلا تدلّ عليّ ، وكان الغلامُ يُبْرئ الأكْمهَ والأبرص ويداوي الناسَ من سائر الأدواء ، فسمع جليسٌ للملك كان قد عميَ ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ فإن أنت آمنت بالله دعوتُ اللهَ فشفاك فآمن بالله فشفاه اللهُ ، فأتى الملكَ فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : مَنْ ردَّ عليك بصرَكَ ؟ قال : ربّي ، قال : أوَ لكَ ربٌّ غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دلَّ على الغلام ؛ فجيء بالغلام ، فقال له الملكُ : أي بني قد بلغ من سحرك ما تُبْرئُ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي اللهُ ، فأخذه فلم يزلْ يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدعا بالمئشار فوضع المئشارَ في مفرق رأسه فشقّه به حتى وقع شقّاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبلَ ، فقال : اللهم اكفنيهم بما شئتَ ، فرجف بهم الجبلُ فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم اللهُ ، فدفعهم إلى نفر من أصحابه ، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحرَ ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فذهبوا به ، فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئتَ ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم اللهُ ، فقال للملك : إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناسَ في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي،،،
ثم ضع ِالسهْمَ في كبد القوسِ ثم قل : باسم الله ربّ الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلتَ ذلك قتلتني ، فجمع الناسَ في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ٍ ، ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهمَ في كبد القوس ، ثم قال : باسم الله ربّ الغلام ، ثم رماه فوضع السهمَ في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات ، فقال الناسُ : آمنا برب الغلام ،،، آمنا برب الغلام ،،، آمنا برب الغلام ، فأُتيَ الملكُ فقيل له : أرأيتَ ما كنتَ تحذرُ ؟ قد ، والله نزل بك حذرُك ، قد آمن الناسُ فأمر بالأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران ، وقال : مَنْ لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها ، فتقاعستْ أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمّة اصبري فإنك ِ على الحقّ )) .
كلما بعد الناس عن عهد النبوة ، ازدادت حاجتهم إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ، يتفيئون في ظلالهما ، ويشربون من معينهما ، ويهتدون بهديهما ؛ التزاماً بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ( تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً : كتاب الله وسنتي ) ففيهما الشفاء والغناء والهدى .
وفي هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة ؛ من تكالب أعدائها عليها ورميهم إياها عن قوس واحدة ، وحيث دبّ الوهنُ واليأس في قلوب بعض المسلمين ، وآخرون حادوا عن الحكمة ، وضلوا عن سواء السبيل ، فقد قمتُ بدراسة حديث الغلام وأصحاب الأخدود ، ووجدت فيه من الوقفات والدروس والعبر ما أراه علاجاً ناجعاًًًًً لكثير من مشكلات الأمة ، ومن هنا رأيت أن أضع هذه الدراسة أمام أحبتي ؛ لتكون لهم زاداً في الطريق ، وعوناً على تخطي العقبات والصعاب ، وتجاوز بنيات الطريق ، وسلوكاً لنهج الحكمة " ومن يؤتَ الحكمة فقد آوتي خيراً كثيراً " .
فأقول مستعيناً بالله ومتوكّلاً عليه ؛ سائلاً إياه التوفيقَ والسداد :
1) ما أشبه الليلة بالبارحة ، فاستخدام السحرة من قِبل أهل الدنيا قديم ، وكثير من زعماء العالم ـ اليوم ـ يستخدمون السحرة وأشباه السحرة ، بل إن بعض ما يتخذه هؤلاء من قرارات مبني على ما يقوله السحرة ويدعونه ، وهو ضلال وإفساد في الأرض ، والله لا يُصلح عمل المفسدين ، وكلما بعد الناس عن الدين والهدى والوحي الصادق ؛ لجأوا إلى أمثال هؤلاء السحرة والكهّان ، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل
2 ) أن الأرض لا تخلو من مؤمن بالله ، ولا يكون خلوّها من المؤمنين إلا في آخر الزمان عند قيام الساعة ، وعندما بُعِثَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان هناك من الحنفاء ؛ كورقة وغيره ، ولذلك كان هذا الراهب على الدين الصحيح ، في أمة لا تعرف لها رباً إلا الملك ، مع أنه قد يكون في البلدان الأخرى من المؤمنين مَنْ لا نعلمهم.
3 ) جواز تخفّي الإنسان بدينه إذا خاف على نفسه ، ولذلك لم يكن الملك يعرف عن هذا الراهب شيئاً ، ولذلك قال الراهب للغلام ( فلا تدل عليّ ) ، وكان في مكة أناس مؤمنون يتخفّون بدينهم ، قال سبحانه : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم " .
4 ) أن هذا الراهب كان يعمل في السرّ ؛ حيث يدعو إلى التوحيد وعبادة الله ، وهذا من أدلة جواز العمل سراً إذا اقتضت المصلحة ذلك ، والأدلة في ذلك كثيرة جداً ، كما في دار الأرقم ، ودعوى النسخ لا دليل عليها ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ،ومن الأدلة على ذلك حديث حذيفة : (( فابتُلينا حتى أصبح أحدنا لا يصلي إلا سراً )) ، ويدل على ذلك قوله تعالى : " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصرَ بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشّر المؤمنين "
5 ) جواز الكذب عند الخوف على النفس ظلماً ، وبخاصة أمام العدو .
6 ) أهمية التربية الفردية ؛ حيث إن هذا الغلام الذي أحيا اللهُ به أمة ً ؛ نتاج تربية الراهب ، ومن أقوى أسباب بقاء الإسلام في روسيا بعد قيام الشيوعية هو التربية الفردية سراً ، بل هكذا قام الإسلام أوّلاً.
7 ) ذكاء هذا الراهب وفراسته ، حيث توسّّم في هذا الغلام النجابة َ والأهلية لقيادة أمته ، وإخراجها من الظلمات إلى النور ، فكانت فراستُه في محلها ، وتوقّعُه في موضعه.
وهكذا يجب أن يعتنيَ المربّون بتلاميذهم ، ويختارون منهم مَنْ يُتوقّع أن يكون لهم دورٌ في قيادة أمتهم وريادتها ، ويُعدّونهم لذلك كما أعد الراهبُ الغلامَ .
8 ) صحة الكرامات ، وأن الله يُجريها على يد مَنْ يشاء من عباده المؤمنين ، وهي وسيلة من وسائل النصر والتأييد والتثبيت ، ومع أهمية الإيمان بها ، يجب البعد عن الغلو فيها ، والاعتماد عليها ، كما لا يجوز إنكارها ، أو التقليل من شأنها ، فلا غلوّ ولا جفاء ، ولا إفراط ولا تفريط.
9 ) الابتلاء سنة ماضية ، وكما أخبر ورقةُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيُبْتلى ، كذلك أخبر هذا الراهبُ الغلامَ ، وهي سنة جارية ، فالمرءُ يُبتلى على قدر دينه ، وهو مصداق قوله سبحانه : " ألم * أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصريحة في هذا الشأن ، ولذا فعلى الدعاة إلى الله أن يُعدّوا أنفسهم لذلك ، ولا يعلم المسلم من أين يأتيه البلاء ،،، نسأل اللهَ السلامة والعافية .
10) قوة توحيد هذا الغلام ؛ حيث أعاد الفضلَ لأهله ، فقال : (( إنما يشفي اللهُ )) وهذا دليل على إيمانه وصدقه وتجرده .
11) أهمية استخدام النعم التي يكرم الله بها المرءَ في الدعوة إلى الله والترفع عن الدنيا وحطامها ، حيث استثمر الغلامُ إكرامَ الله له بشفاء المرضى من أجل خدمة دينه وعقيدته ، بينما هناك آخرون يستخدمون دينهم من أجل دنياهم ، بل من أجل دنيا غيرهم ، وهناك من جعل العلم والدعوة وسيلة للتكسّب وجمع الحطام (( يبيع دينَه بعرض من الدنيا )) ، وقد استثمر يوسفُ ـ عليه السلام ـ نعمة َ(( تعبير الرؤيا )) من أجل دعوة أهل السجن ، وإظهار براءته ، وبعد ذلك سياسة الأمة ، وقيادتها بالعدل والتوحيد .
12 ) أنه لا مانع من إخبار الإنسان بما هو مقدم عليه من بلاء أو فتنة ، حتى يستعد لذلك ، ولا يُفاجأ به ، حيث إن ذلك من وسائل التثبيت ، والصبر على الأذى ، وقد أخبر يوسفُ أحدَ صاحبي السجن بما سيحصل له ، وكذلك أخبر ورقة رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأخبر الإمامُ الشافعيُّ الإمامَ أحمد بما سيحصل له من بلاء بناءً على رؤيا رآها وهو في مصر ، فأرسل إلى أحمد في ذلك.
13) نِعْمَ الجليسُ جليسُ هذا الملك الذي حمد نعمة َالله عليه ، وكان جريئاً بالحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم ، وفقد منصبه ومكانته ، بل ضحى بكل متع الدنيا ، وتحمل الأذى والتعذيب ثم الموت ، ونال الشهادة في سبيل الله ، فهنيئاً له ،،، ولا نامت أعين الجبناء والمنافقين والمتكسّبين بالدين ،،، " فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ".
14) شجاعة الغلام وقوته في الحق أمام هذا الملك الظالم ، حيث أعلن توحيده ، وثبت عليه ، ولاقى في ذلك ما لاقى
15) أنه لا لوم على من دل ظالماً على مسلم إذا كان هذا بسبب الأذى والتعذيب مما لا طاقة له به ، فالإنسان له حد في التحمل والصبر ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولا يجوز أن نلوم من عذره الله ، ولذلك لم يلم ِ الغلامُ جليسَ الملك ، ولا الراهبُ الغلامَ ، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد بذل الوسع والطاقة ، واستنفاذ الفرص
16) مع خوف الراهب من الملك ، وإشفاقه من الأذى ، فقد ثبت ثباتاً عجيباً ، وصمد صموداً نادراً ، وهو يمثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فاصبروا )) ، وقد نال الشهادة في سبيل الله صابراً محتسباً ؛ مقبلاً غير مدبر.
وكذلك فعل بالجليس فلم يصده عن دينه مع حداثة عهده بالإسلام ، وطول مجالسته للملك ، فلقي ربه صابراً محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، وكذلك بشاشة ُ الإيمان إذا خالطت القلوب تمكّنتْ منها ، وفي قصة الجليس وإيمانه وقتله شبه ٌبقصة سحرة فرعون ،،، رحمهم الله أجمعين .
17) إكرام الله للغلام بهذه الكرامات من أجل أن يتم أمر الله في نصرة دينه وإعلاء كلمته على يديه ، ويشرع للمؤمن أن يسأل الله أن يمده بكرامات من عنده ؛ تثبيتاً لقلبه ، وبرهاناً في دعوته ، وكبتاً لأعدائه وخصومه ، وقد سأل إبراهيم ـ عليه السلام ـ ربه ، فقال : " ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " ، وسأل بنو إسرائيل عيسى ـ عليه السلام ـ أن يسأل الله لهم أن ينزل عليهم مائدة من السماء " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " فسأل عيسى ـ عليه السلام ـ ربه فاستجاب له " قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ".
ويدخل في ذلك : القَسَم على الله ، فمن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .
18) تأمل هذا الدعاء الجامع : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) وهو أولى من كثير من الأدعية التفصيلية حيث إن تفويض الأمر لله يغني عن اجتهاد البشر ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، والخير كل الخير فيما يختاره الله وقد يختار الإنسان في دعائه لهلاك عدوه أمراً لا يتحقق فيه ما أراد " وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، بل قد يكون فتنة له وبلاء ، وقد قيل للحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " .
19 ) كيف عرف الغلام أن الملك لن يستطيع أن يقتله ، وأن طريقة قتله هي كما ذكر مع أنه ليس بنبي ؟ قد يكون ذلك إلهاماً ؛ حيث ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن فيمَنْ قبلنا محدّثون ، والظاهر أن هذا منهم ، وهي كرامة من الله له ، يدل على ذلك ما سبق من كرامات منذ صغره ؛ ابتداء من هدايته على يد الراهب وما تلا ذلك حتى قتل ـ رحمه الله ـ.
20) في هذا الحديث دليل على جواز العمليات الاستشهادية ، فإذا كان هذا الغلام قد دلّ الملك على مقتله من أجل مصلحة غلب على ظنه تحققها ، فمن باب أولى جواز الإقدام على ما فيه نكاية بالعدو ، وتحقيق مصالح كبرى ، ولو كان في ذلك قتل النفس ، والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، والقول بالعمليات الاستشهادية له ضوابط ، ليس هذا مكان تفصيلها ، ومن أهمها : غلبة الظن على تحقق النكاية بالعدو ، وإرهابه ، والحد من طغيانه ، على ألا يترتب على ذلك مفاسد تغلب على تلك المصالح ، ولذلك لا بد أن يكون القرار للقيام بمثل تلك الأعمال صادراً عن جهات تتوافر فيها شروط الأهلية لاتخاذ مثل هذه القرارات الخطيرة .
21)قال سيد ـ رحمه الله ـ : ( في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان وأن الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية ، في نفوس الفئة الخيّرة الكريمة الثابتة المستعلية لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة .
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئاً آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ، ومن متاع وحرمان ، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان ، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة . إن الناس جميعاً يموتون ، وتختلف الأسباب ، ولكن الناس لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار ، ولا يرتفعون هذا الارتفاع ، ولا يتحررون هذا التحرر ، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق ، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده ، تشارك الناس في الموت ، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد ، المجد في الملأ الأعلى ، وفي دنيا الناس ـ أيضاً ـ إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة ، وليست شيئاً آخر على الإطلاق ، وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان ، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة ) أ . هـ
ما أحوجنا إلى هذا الفهم الذي يؤصل قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وليس هو البقاء على ظهر الأرض والعيش فيها ، فكم من قتيل قد انتصر ، وكم من حيّ قد انهزم ويعيش كما تعيش الأنعام ، بل أضل سبيلاً
يا شيــــــخ ُصبراً مضت أيامنا دولاً
كم من(قتيل)علا والخصم في الحفر
22) عجيب أمر هذا الغلام ! لماذا دلّ الملكَ على مقتله ؟ ولماذا ، وقد منعه الله من كيدهم لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه ، ويدل الناس على الدين الحق ، ويُبقي على حياته سالماً ؟ هذا سؤال يتبادر إلى الأذهان والفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار ، وإلا لو تأملت قليلاً لوجدت أن الغلام قد سلك بفعله طريق أعظم الانتصارات والمجد والخلود .
** إن الغلام قد أدرك بتوفيق من الله وحده ـ أن كلمة واحدة في لحظة حاسمة صادقة ، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين .
إن الحياة موقف ، يتميز فيها الصادق من غيره ، وقد سنحت فرصة ثمينة لا يجوز تفويتها ، ولا يليق تبرير ضياعها ، وكما قيل : إذا هبت رياحك فاغتنمها ، وقد هبت رياح هذا الغلام ، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه وإنقاذ قومه وعشيرته من النار ، ولو دفع حياته ثمناً في سبيل تحقيق هذه الغاية ، وما أرخصها من نفس في سبيل تحقيق هذا الهدف العظيم .
** إنه انتصار الفهم ، وانتصار الإرادة ، وانتصار العقيدة ، عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة ، وحياة صادقة ، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره .
إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة ، وموقف واحد :
ـ انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
ـ وانتصر بقوة إراداته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب ، متخطّياً جميع العقبات ، مستعلياً على الشهوات وحظوظ النفس ، ومتع الحياة الدنيا .
ـ وانتصر على هذا الملك الذي أعمى الله بصيرته ، فأخرب ملكه بيده لا بيد غيره ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
إن الغلام أقدم على ذلك وهو يعي حقيقة ما يفعل ، أما المَلِك فأعمته سَكْرة ُالمُلْك ، وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام ؛ في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد ، وحيت أمة ، بل حتى الفرد لم يمت ،،، " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون".
ـ وانتصر الغلام عندما وقع وتحقق ما كان يتصوره ويتوقعه ويخطط له ، وقدم نفسه من أجله ، فآمن الناس وقالوا جميعاً : آمنا بالله رب الغلام .
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ وسلامة التقدير ، نجاح باهر وفوز ظاهر ، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم .
ـ وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، فكل الناس يموتون ، ولكن القليل منهم مَنْ يستشهدون.
ـ وأخيراً انتصر عندما خلّد اللهُ ذِكْرَه فيمن بعده ؛ قدوة وأسوة وذكراً حسناً للأجيال فجعل الله له لسان صدق في الآخرين.
23) وتتويجاً لهذه الانتصارات المتلاحقة تأتي نهاية القصة عندما آمن الناس برب الغلام ، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت ، وهنا جُنّ جنون الملك وفقد صوابه ، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف ، في محاولة يائسة للإبقاء على هيبته وسلطانه ، وتعبيد الناس له من دون الله.
فها هو يحفر الأخاديد ، ويوقد النيران ، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين فيها ، وهنا تأتي المفاجأة المذهلة ، فبدل أن يضعف من يضعف ، ويهرب من يهرب ، لا تسجل الرواية أن أحداً منهم تراجع أو جَبُنَ أو هرب.
بل نجد الإقدام والشجاعة والاقتحام ، وكأن الغلام قد بثّ فيهم البطولة والثبات ، وها هم يجدّون في اللحاق به ، وهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم ، تموت الأجسام وتحيا عند خالقها .
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية ، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها ـ لا على نفسها ـ وحُقَّ لها أن تخاف ، حيث إن ذلك رحمة وشفقة ًلا جُبْناً وخوفاً ، ولكنها قد أرضعته الإيمانَ والشجاعة والإقدام ، فطلب منها الإقدام فأقدمت .
وإذا كانــتِ النفوسُ كباراً
تعبتْ في مرادها الأجسامُ
24) أي أمة تلك ؟ وأي قوم أولئك ؟ مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام ، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك ، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان فقد عرفوا المنهج حق المعرفة ، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره ، أو تربّوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب ، ولامس الأرواح يفعل العجب .
لقد رأينا في قصة الراهب وجليس الملك والغلام انتصاراً فردياً ، ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصاراً جماعياً ، قلَّ أن يحدث له في التاريخ مثيلاً كما حدث لسحرة فرعون " فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين ".
إن كل هذه الانتصارات المتلاحقة ثمرة طبيعية لصفاء العقيدة ، ووضوح المنهج ، وسلامة الطريق ، ومن ثم الفهم العميق لحقيقة الانتصار.
فهل يعي ذلك أولئك الذين يروْن أن حياتهم تحت حماية عدوهم بذل واستصغار مع شيء قليل من حطام الدنيا ؛ خير لهم من الموت بشرف وعزّ وكرامة .
مَنْ يهنْ يسهل ِالهوانُ عليه
ما لجـــــــــرح ٍبميّتٍ إيلامُ
وصدق عنترة :
لا تــــــــسقِني ماءَ الحياةِ بذلّةٍ
بلْ فاسقني بالعزّ كأسَ الحنظل
25 ) وقبل أن نغادر هذه القصة العجيبة يرد سؤال في الأذهان :
ماذا حلّ بهذا الملك وحاشيته وجنده ؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله ممن قتلهم ؟ إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذِكْر لهؤلاء الظلمة ، وماذا كان مصيرهم في الدنيا ، ولله في ذلك حكم قد تخفى علينا . نعمْ ،،، وردتْ آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " . ولكن سنة الله الجارية" فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" وقال سبحانه لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون " . وَوعْدُ الله ِالذي لا يتخلف : " إن ربك لبالمرصاد " . والعزاء للمؤمنين على مرّ الأجيال : " إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً * فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً " . والحذر الحذر من اليأس والقنوط وسوء الظن بالله : " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " ، " ولا تحسبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون " . " ولا تحسبنّ الله مخلفَ وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ".
وبعد :
أخي الكريم ، وبعد هذه السياحة في هذه القصة العجيبة ، والجولات البطولية ؛ التي لم يلتبس فيها الحق بالباطل ، ولا النور بالظلام ـ اسأل نفسك بتجرّد :
مَن الذي انتصر في هذه المعركة الفاصلة ؟
أهو المَلِك أم الغلام ؟
هل انتصر الملأ أو المؤمنون ؟
والتاريخ يُعيد نفسَه ، وتتغير الرسوم والأشخاص والدول ، وتبقى الحقائق والثوابت والمبادئ .
" إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،
أبو أنس
أعذروني على الإطالة وعدم الاختصار حتى لا أغير في كلام الشيخ حفظه الله
تعليق