الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يشتد الحر فيشتدُّ نفير الناس للاستجمام بالسفر، تحفِّزهم إليه إغراءات الدعايات والتسهيلات.
ولكلٍ وجهةٌ هو مولِّيها، وأينما توجّهت تلك الجموعُ فالله هو وليُّها ومولاها، وهو يعلم سِرَّها ونجواها. ومهما أبعدتْ في أسفارها، فهي لا تخرج عن ملكه، ولا تعزُبُ عن عِلمه، ولا تخفى عليه منها حركةٌ ولا نأمةٌ ولا خالجة.
فإلى كلِّ من عقد عزيمةَ السفر... هذه جملةُ وصايا نتوجَّه بها إليه، عسى أن تنفعَنا وإياه، وذكِّرْ فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين.
وإننا لنحسبُ أنّ في قلبه من خشية الله وإجلالِه وتعظيمِ أمره والإذعانِ لحكمه ما يُغرينا بتذكيره بجملةٍ من الوصايا، نجدُنا وإياه في الحاجة إليها على سواء.
الوصية الأولى: فليتذكّرَ المسافرُ - وقد أخذ للسفر أُهبته وأزوادَه- أنَّ كلَّ زادٍ يتزود به في سفره، فخيرٌ منه وأولى، وألزمُ وأحرى: تقوى الله –جل جلاله-؛ فهي الزاد الذي لا يستغني عنه مؤمنٌ في حِلٍّ ولا ترحال، وهو لزيمةُ العبدِ لا ينفكُّ عنه بحال.
وتلك وصيةُ الله –جل جلاله- : (وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزاد التقوى)، وهي أعظم وصية وصّى بها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، وما وصى إلاّ بعظيم، "اتق الله حيثما كنتَ"، اتق الله في السرِّ والعلن، وفي الإقامةِ والظعْن، حيث يراك الناس، وحيث لا يرونك.
إنَّ تقوى الله –جل جلاله- ليست شيئاً يُلاكُ بالأَلسُنِ، ولكنَّه شعورٌ يتروَّى منه القلبُ، فيفيض بآثاره على الجوارح، ليُرى واقعاً محسوساً مشهوداً في سلوكِها وعملها.
ليعلمْ كلُّ مسافرٍ أنَّ من علامات صدق التقوى ألاّ يزيده حضورُ الناس من خشيته لله، ولا يَنقصه من خشيته له غيابُه عنهم، فاستواء خشيةِ العبد لله في سره وعلانيته، وفي اجتماعه بالناس وخلوته؛ لهو من أعظم دلائل صدق التقوى، وهي من كمال الخشية لله، ولذا كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربّه كثيراً بقوله: "اللهم إني أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة".
وغيابُ المسافر عن نظر من يبالي بهم من الناس هو (نوعُ خلوة) من هذا الوجه، ولو كان بمحضر آلاف من غيرهم، فقد يتمنّعُ العبدُ من غِشيانِ المعصية بمحضر من يباليهم من الناس، فلا يخلُصُ تمنُّعه من شائبة خشيتِهم، ولكن يَخْلُص هذا التمنع لله وحدَه حين يكون مستخفياً عنهم.
فليُخلِصِ المسافرُ خشيتَه لله، وليحذرْ أشدَّ الحذرِ أن تكونَ خشيتُه للناس أعظمَ من خشيته لربه، فإن العبدَ إذا بيَّتَ فعلَ المنكراتِ عند عزيمةِ السفر، أو كانت المعصية هي الباعثَ على سفره؛ كان ذلك أدلَّ على أنه لم يمنعه من الحرام إيمانٌ ولا تقوى، وإنما هو خشيةُ الناس، أو تعذُّرُه عليه.
وهذا أقبحُ بمراحل ممن قصد سفراً مباحاً لم يبيِّت فيه عزيمةً على معصية، ولم يقصدْ بالسفر منكراً، وإنما استعرضه منكرٌ ما ، فلم يلبث أنْ ينهزمَ لإغرائه ويقع في حِبالة الشيطان وإغوائه.
ألا وإنّ من أعظم ما يعينُ المسافرَ على الأخذ بوصية حبيـبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "اتق الله حيثما كنت" أن يستشعر دقَّةَ مراقبةِ الله إيّاه، فذلك أدعى أن يستجيشَ في قلبه تقوى الله حيثُما كان، ومراقبتَه في السر والعلن، وليتدبَّرْ تلك الآياتِ التي تُبين في أحسن بيان عن سعة علم الله وقربِه من خلقه، كقولِه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61]
وقولِه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]، وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: من الآية235 ]، وكقولِه: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُون (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون َ(20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ(22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[فصلت].
فمهما استـتر العبد من الناس؛ فلن يستتر من أبعاضِه التي يباشر بها المعصية، ولئن استعان بها على معصية الله؛ فلسوف تعصيه في اليوم المشهود، وتكون عليه بعضَ الشهود.
وما كان سبحانه ليعزُبَ عن علمه شيءٌ حتى يحتاجَ إلى مخبرين وشهود، ولكنه –جل جلاله- أراد أن يقطعَ عنهم المعاذيرَ، ويقيم عليهم الحجة.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟!، قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: اضحكُ من مخاطبة العبد ربَّه –أي: يوم القيامة- يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال فيقول: بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فِيِهِ، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطقُ بأعمالِه، قال: ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بُعداً لَكُنَّ وسُحْقاً! فعَنْكُنَّ كُنتُ أناضل". [رواه مسلم].
وهذه النصوص وغيرُها -مما هو في معناها- تُلقي بظل الرقابة المباشرة على كل نفس، وحينها تستشعر النفسُ أنها غيرُ منفردة لحظة واحدة، وغيرُ متروكةٍ لذاتِها لحظةً واحدةً، فهناك حفيظٌ عليها رقيبٌ، يحصي كلَّ حركة، ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء.
فإذا راقب العبد ربَّه في سِرِّه وعلنه، وإقامته وظعْنِه؛ فقد حقّق مرتبه الإحسان التي هي أعلى مراتبِ الإسلام. وهي ثمرةُ معرفةِ الله وخشيتِه "الإحسانُ: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة؛ فإنها تفعل الطاعاتِ، وتنتهي عن المعاصي، ولو لم يتسلط عليها رقيبٌ من غيرها، فهي تراقبُ اللهَ في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء.
ولا ينسى المسلم -وهو يُعظمَ خوفَه من الله وحياءَه منه- ضعفَه، وإسرافه في أمره، وتفريطه في جنبِه سبحانه، فلا يترددُ أن يستعينَ على ملازمةِ تقوى الله أينما حلَّ وحيثما كان بالدعاء المأثور الذي علَّمَنَاه حبيبُنا-صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بُعده، اللهم أنت الصاحبُ في السفر، والخليفةُ في الأهل.." فإذا تلا هذا الدعاءَ بتدبُّرٍ وحضورِ قلبٍ استشعر -حينها- رقابةَ الله عليه، وشهادتَه إياه، واطّلاعَه على طواياه.
الوصية الثانية: ينبغي للمسافر -وهو يطوِّف في أرجاء الأرض- أن يستشرفَ مشاهدَ الاتعاظ والاعتبار، والنظرِ والتفكر، فلا يدعُها تفوتُه وهي سانحة أمام ناظريه، فإنَّه مهما اختلفت وجهتُه فلن يخلو سفرُه من مشاهد تستدعي منه لحظاتِ تأملٍ وتفكُّر.
فسرِّح طرْفَك -أيها المسافر- بقلبٍ متحفِّز وحِسٍّ متيقِّظ فيما أودعه اللهُ في أرضه من عجيب خلقه، وبديع آياته، وجميل صنعه، فإنها لو نطقت لنطقت بعظمة الله وقدرتِه، ولشَهِدَتْ بربوبيته وقوَّتِه (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس:101]، (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس:6]
إن هذا النظر والتفكر مأمورٌ به كلُّ أحد، ولكن أولى الناسِ به أولئك السائحون؛ فهم أفرغُ قلباً، وأقلُّ شغلاً، وأروحُ فكراً، وأنسبُ حالاً.
ثم سرِّح طرفك -كرَّاتٍ أخرى- في آثار الغابرين، ومصيرِ المترفين، فإنها آثارٌ تنطقُ بالآيات، وتوحي بالعظات، فليكن لك في كلِّ أثرٍ نظرٌ، وفي كل آية تفكُّر، تستنطقُ منه المواعظَ والعبر، فهاهم عامِروها قد أُهلكِوا، لم تمنعْهم قوتُهم ولا جبروتهم من بأسِ الله الشديد، وهاهي آثارهم شاهدةً عليهم، فلا يستهوينَّك ما توحيه آثارُهم من قوة عمارةٍ، أو روعةِ حضارةٍ، وما تشهد لهم به من دِقَّةِ الصَّنْعةِ وشدةِ البأس والقوةِ، لا يستهوينَّك ذلك عن التفكُّرِ في بطش الله الشديد، وبأسِه القويِّ الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين.
إنَّ النظرَ في آثار الغابرين يهُزُّ القلوبَ، حتى قلوبَ المتجبرين. وإن هذه التأملاتِ في مآلهم لتهُزُّ القلبَ هزاً مهما كان جاسياً غافلاً قاسياً.
ولذا نجد القرآن كثيراً ما يأخذ بأيدينا إلى أن ننظرَ في مصارع القوم لنتقى ونتذكّر، كما في قوله جل جلاله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم:9]
ولقد عاب الله على أقوامٍ لا يتفكرون في خلق الله، ولا يعتبرون بآثار الذين خلوا من قبلهم، وما أكثرَ الذين لا يتفكرون ولا يتذكرون، فليحذرِ المسافرُ أن يكون ممن عناهم الله بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105]
الوصية الثالثة: أَمَا وقد اختار كلُّ مسافرٍ وجهتَه عن إرادة واختيار، ولم يُسَقْ إليها عن اضطرار، وكان في سعة ألاَّ يخرج إليها، فإننا نذكِّره وأنفسنا بضرورةِ استشعارِ العزَّةِ بالإسلام حيثُما حلَّ، وأن يعتزَّ بمبادئه وقِيَمِهِ أينما كان، وأنْ يأخذَ بها على اختلاف الأحوال.
وحقٌ عليه أن يستعْلِن بما أوجب عليه الإسلامُ أن يستعلنَ به من الشعائر الظاهرة، فلْيُصلِّ الصلاة لوقتها أينما أدركته، يقيمُها كما أمرَ الله من غير حياءٍ ولا استخفاء، ولكنْ بعيداً عن الفوضى والمضايقة.
والحجابُ شعارُ المؤمناتِ العفيفاتِ الغافلات، لا تتحرَّج المؤمنة أن تمتازَ به بين النساء، وإن جحظتْ إليها العيون، ولمزتها الألسُنُ، لأنها تدرك أنه لن يضيرَ الغمامَ طنينُ الهوام. فعارٌ على المسلمِ -وقد هُديَ إلى الحقِّ- أن يتحرجَ أوْ يخجلَ من استعلانِه بشعائرِ دِيْنِهِ، فالحق أحقُّ أنْ يُتَّبعَ، وهو أولى بالمجاهرة والاستعلان.
إنَّ التقليد والتشبُّه لا يَهَبُ الضعيفَ العزَّة، ولا يردُّ للمظلوم حقَّه، ولكنه سلوكٌ يفعله المنهزمون، ويُوفِضُ إليه المرتابون، يكتسبون عظيمَ الإثم بما لا يحظَوْن معه بنفع أصلاً، وهذا التقليد المَقيتُ يشي بهزيمة نفسية، وبضعْفِ إيمانٍ، وتزعْزُعِ يقين.
فارفعْ -أيها المسلم- بدينك رأساً، واشمَخْ به أنفاً، ولا تلفت إلى كلِّ همَّاز لمَّاز، فما أنت بأكرم عند الله من نبيه، وهو الذي أوذي بالهمز والغمز واللمز، فما زاده ذلك إلا ثباتاً ويقيناً واعتزازاً بالإسلام.
الوصية الرابعة: السفر مظنة الأخطار، وطول السلامة لا تمنح ضمان الرجوع. وإذا كان المسلم مأموراً بأن يكتبَ وصيته وهو في الأمن والاستقرار، فكيف إذا كان على جناح سفر تعترضه المخاوف، وتنوشه الأخطار.
والوصية مستحبة، ولكنَّها واجبة على من عليه ديونٌ وحقوقٌ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده".
فحقٌ على كل من كان في ذمته شيء أن يكتب وصيته آمناً كان أو خائفاً، صحيحاً أو مريضاً.
إن حقوق الناس شأنها معظم في الإسلام، نستجلي ذلك من هذه الأحاديث:
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة -رضي الله عنه-، أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قام فيهم، فذكر لهم أنَّ الجهادَ في سبيل الله والإيمانَ بالله أفضلُ الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله تُكفَّرُ عني خطاياي؟! فقال: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غيرُ مدبر". ثم قال صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد عليه، فقال: "نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلا الديْن؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".
وفي الحديث الآخر: "يغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين" [أخرجه مسلم]
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: "هل عليه من دَين؟"، قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أُتي بجنازةٍ أخرى، فقال: "هل عليه مِن دَين؟"، قالوا: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا على صاحبكم"، فقال أبو قتادة-رضي الله عنه-: عليَّ دَينُه يا رسول الله؛ فصلى عليه. [متفق عليه].
وعن محمد بنِ جحشٍ -رضي الله عنه-، قال: كنا جلوساً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: "سبحان الله! ماذا نُزِّل من التشديد" ، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نُزل؟! فقال: "والذي نفسي بيده، لو أنَّ رجلاً قُتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قُتل، ثم أحيي، ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينُه" [أخرجه النسائي بسند صحيح].
فإذا كان هذا هو خطر الديون، وجب على من في ذمته حق للناس -ولا سيَّما إذا عزم على السفر- أن يوصي بقضائها وأدائها إلى أهلها؛ إبراءً للذمة، وتحلُّلاً من التبعة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يشتد الحر فيشتدُّ نفير الناس للاستجمام بالسفر، تحفِّزهم إليه إغراءات الدعايات والتسهيلات.
ولكلٍ وجهةٌ هو مولِّيها، وأينما توجّهت تلك الجموعُ فالله هو وليُّها ومولاها، وهو يعلم سِرَّها ونجواها. ومهما أبعدتْ في أسفارها، فهي لا تخرج عن ملكه، ولا تعزُبُ عن عِلمه، ولا تخفى عليه منها حركةٌ ولا نأمةٌ ولا خالجة.
فإلى كلِّ من عقد عزيمةَ السفر... هذه جملةُ وصايا نتوجَّه بها إليه، عسى أن تنفعَنا وإياه، وذكِّرْ فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين.
وإننا لنحسبُ أنّ في قلبه من خشية الله وإجلالِه وتعظيمِ أمره والإذعانِ لحكمه ما يُغرينا بتذكيره بجملةٍ من الوصايا، نجدُنا وإياه في الحاجة إليها على سواء.
الوصية الأولى: فليتذكّرَ المسافرُ - وقد أخذ للسفر أُهبته وأزوادَه- أنَّ كلَّ زادٍ يتزود به في سفره، فخيرٌ منه وأولى، وألزمُ وأحرى: تقوى الله –جل جلاله-؛ فهي الزاد الذي لا يستغني عنه مؤمنٌ في حِلٍّ ولا ترحال، وهو لزيمةُ العبدِ لا ينفكُّ عنه بحال.
وتلك وصيةُ الله –جل جلاله- : (وتزوَّدوا فإنَّ خيرَ الزاد التقوى)، وهي أعظم وصية وصّى بها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ، وما وصى إلاّ بعظيم، "اتق الله حيثما كنتَ"، اتق الله في السرِّ والعلن، وفي الإقامةِ والظعْن، حيث يراك الناس، وحيث لا يرونك.
إنَّ تقوى الله –جل جلاله- ليست شيئاً يُلاكُ بالأَلسُنِ، ولكنَّه شعورٌ يتروَّى منه القلبُ، فيفيض بآثاره على الجوارح، ليُرى واقعاً محسوساً مشهوداً في سلوكِها وعملها.
ليعلمْ كلُّ مسافرٍ أنَّ من علامات صدق التقوى ألاّ يزيده حضورُ الناس من خشيته لله، ولا يَنقصه من خشيته له غيابُه عنهم، فاستواء خشيةِ العبد لله في سره وعلانيته، وفي اجتماعه بالناس وخلوته؛ لهو من أعظم دلائل صدق التقوى، وهي من كمال الخشية لله، ولذا كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربّه كثيراً بقوله: "اللهم إني أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة".
وغيابُ المسافر عن نظر من يبالي بهم من الناس هو (نوعُ خلوة) من هذا الوجه، ولو كان بمحضر آلاف من غيرهم، فقد يتمنّعُ العبدُ من غِشيانِ المعصية بمحضر من يباليهم من الناس، فلا يخلُصُ تمنُّعه من شائبة خشيتِهم، ولكن يَخْلُص هذا التمنع لله وحدَه حين يكون مستخفياً عنهم.
فليُخلِصِ المسافرُ خشيتَه لله، وليحذرْ أشدَّ الحذرِ أن تكونَ خشيتُه للناس أعظمَ من خشيته لربه، فإن العبدَ إذا بيَّتَ فعلَ المنكراتِ عند عزيمةِ السفر، أو كانت المعصية هي الباعثَ على سفره؛ كان ذلك أدلَّ على أنه لم يمنعه من الحرام إيمانٌ ولا تقوى، وإنما هو خشيةُ الناس، أو تعذُّرُه عليه.
وهذا أقبحُ بمراحل ممن قصد سفراً مباحاً لم يبيِّت فيه عزيمةً على معصية، ولم يقصدْ بالسفر منكراً، وإنما استعرضه منكرٌ ما ، فلم يلبث أنْ ينهزمَ لإغرائه ويقع في حِبالة الشيطان وإغوائه.
ألا وإنّ من أعظم ما يعينُ المسافرَ على الأخذ بوصية حبيـبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "اتق الله حيثما كنت" أن يستشعر دقَّةَ مراقبةِ الله إيّاه، فذلك أدعى أن يستجيشَ في قلبه تقوى الله حيثُما كان، ومراقبتَه في السر والعلن، وليتدبَّرْ تلك الآياتِ التي تُبين في أحسن بيان عن سعة علم الله وقربِه من خلقه، كقولِه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس:61]
وقولِه (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]، وقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: من الآية235 ]، وكقولِه: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُون (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون َ(20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ(22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[فصلت].
فمهما استـتر العبد من الناس؛ فلن يستتر من أبعاضِه التي يباشر بها المعصية، ولئن استعان بها على معصية الله؛ فلسوف تعصيه في اليوم المشهود، وتكون عليه بعضَ الشهود.
وما كان سبحانه ليعزُبَ عن علمه شيءٌ حتى يحتاجَ إلى مخبرين وشهود، ولكنه –جل جلاله- أراد أن يقطعَ عنهم المعاذيرَ، ويقيم عليهم الحجة.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟!، قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: اضحكُ من مخاطبة العبد ربَّه –أي: يوم القيامة- يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال فيقول: بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيختم على فِيِهِ، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطقُ بأعمالِه، قال: ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بُعداً لَكُنَّ وسُحْقاً! فعَنْكُنَّ كُنتُ أناضل". [رواه مسلم].
وهذه النصوص وغيرُها -مما هو في معناها- تُلقي بظل الرقابة المباشرة على كل نفس، وحينها تستشعر النفسُ أنها غيرُ منفردة لحظة واحدة، وغيرُ متروكةٍ لذاتِها لحظةً واحدةً، فهناك حفيظٌ عليها رقيبٌ، يحصي كلَّ حركة، ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء.
فإذا راقب العبد ربَّه في سِرِّه وعلنه، وإقامته وظعْنِه؛ فقد حقّق مرتبه الإحسان التي هي أعلى مراتبِ الإسلام. وهي ثمرةُ معرفةِ الله وخشيتِه "الإحسانُ: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة؛ فإنها تفعل الطاعاتِ، وتنتهي عن المعاصي، ولو لم يتسلط عليها رقيبٌ من غيرها، فهي تراقبُ اللهَ في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء.
ولا ينسى المسلم -وهو يُعظمَ خوفَه من الله وحياءَه منه- ضعفَه، وإسرافه في أمره، وتفريطه في جنبِه سبحانه، فلا يترددُ أن يستعينَ على ملازمةِ تقوى الله أينما حلَّ وحيثما كان بالدعاء المأثور الذي علَّمَنَاه حبيبُنا-صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بُعده، اللهم أنت الصاحبُ في السفر، والخليفةُ في الأهل.." فإذا تلا هذا الدعاءَ بتدبُّرٍ وحضورِ قلبٍ استشعر -حينها- رقابةَ الله عليه، وشهادتَه إياه، واطّلاعَه على طواياه.
الوصية الثانية: ينبغي للمسافر -وهو يطوِّف في أرجاء الأرض- أن يستشرفَ مشاهدَ الاتعاظ والاعتبار، والنظرِ والتفكر، فلا يدعُها تفوتُه وهي سانحة أمام ناظريه، فإنَّه مهما اختلفت وجهتُه فلن يخلو سفرُه من مشاهد تستدعي منه لحظاتِ تأملٍ وتفكُّر.
فسرِّح طرْفَك -أيها المسافر- بقلبٍ متحفِّز وحِسٍّ متيقِّظ فيما أودعه اللهُ في أرضه من عجيب خلقه، وبديع آياته، وجميل صنعه، فإنها لو نطقت لنطقت بعظمة الله وقدرتِه، ولشَهِدَتْ بربوبيته وقوَّتِه (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس:101]، (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس:6]
إن هذا النظر والتفكر مأمورٌ به كلُّ أحد، ولكن أولى الناسِ به أولئك السائحون؛ فهم أفرغُ قلباً، وأقلُّ شغلاً، وأروحُ فكراً، وأنسبُ حالاً.
ثم سرِّح طرفك -كرَّاتٍ أخرى- في آثار الغابرين، ومصيرِ المترفين، فإنها آثارٌ تنطقُ بالآيات، وتوحي بالعظات، فليكن لك في كلِّ أثرٍ نظرٌ، وفي كل آية تفكُّر، تستنطقُ منه المواعظَ والعبر، فهاهم عامِروها قد أُهلكِوا، لم تمنعْهم قوتُهم ولا جبروتهم من بأسِ الله الشديد، وهاهي آثارهم شاهدةً عليهم، فلا يستهوينَّك ما توحيه آثارُهم من قوة عمارةٍ، أو روعةِ حضارةٍ، وما تشهد لهم به من دِقَّةِ الصَّنْعةِ وشدةِ البأس والقوةِ، لا يستهوينَّك ذلك عن التفكُّرِ في بطش الله الشديد، وبأسِه القويِّ الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين.
إنَّ النظرَ في آثار الغابرين يهُزُّ القلوبَ، حتى قلوبَ المتجبرين. وإن هذه التأملاتِ في مآلهم لتهُزُّ القلبَ هزاً مهما كان جاسياً غافلاً قاسياً.
ولذا نجد القرآن كثيراً ما يأخذ بأيدينا إلى أن ننظرَ في مصارع القوم لنتقى ونتذكّر، كما في قوله جل جلاله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [الروم:9]
ولقد عاب الله على أقوامٍ لا يتفكرون في خلق الله، ولا يعتبرون بآثار الذين خلوا من قبلهم، وما أكثرَ الذين لا يتفكرون ولا يتذكرون، فليحذرِ المسافرُ أن يكون ممن عناهم الله بقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105]
الوصية الثالثة: أَمَا وقد اختار كلُّ مسافرٍ وجهتَه عن إرادة واختيار، ولم يُسَقْ إليها عن اضطرار، وكان في سعة ألاَّ يخرج إليها، فإننا نذكِّره وأنفسنا بضرورةِ استشعارِ العزَّةِ بالإسلام حيثُما حلَّ، وأن يعتزَّ بمبادئه وقِيَمِهِ أينما كان، وأنْ يأخذَ بها على اختلاف الأحوال.
وحقٌ عليه أن يستعْلِن بما أوجب عليه الإسلامُ أن يستعلنَ به من الشعائر الظاهرة، فلْيُصلِّ الصلاة لوقتها أينما أدركته، يقيمُها كما أمرَ الله من غير حياءٍ ولا استخفاء، ولكنْ بعيداً عن الفوضى والمضايقة.
والحجابُ شعارُ المؤمناتِ العفيفاتِ الغافلات، لا تتحرَّج المؤمنة أن تمتازَ به بين النساء، وإن جحظتْ إليها العيون، ولمزتها الألسُنُ، لأنها تدرك أنه لن يضيرَ الغمامَ طنينُ الهوام. فعارٌ على المسلمِ -وقد هُديَ إلى الحقِّ- أن يتحرجَ أوْ يخجلَ من استعلانِه بشعائرِ دِيْنِهِ، فالحق أحقُّ أنْ يُتَّبعَ، وهو أولى بالمجاهرة والاستعلان.
إنَّ التقليد والتشبُّه لا يَهَبُ الضعيفَ العزَّة، ولا يردُّ للمظلوم حقَّه، ولكنه سلوكٌ يفعله المنهزمون، ويُوفِضُ إليه المرتابون، يكتسبون عظيمَ الإثم بما لا يحظَوْن معه بنفع أصلاً، وهذا التقليد المَقيتُ يشي بهزيمة نفسية، وبضعْفِ إيمانٍ، وتزعْزُعِ يقين.
فارفعْ -أيها المسلم- بدينك رأساً، واشمَخْ به أنفاً، ولا تلفت إلى كلِّ همَّاز لمَّاز، فما أنت بأكرم عند الله من نبيه، وهو الذي أوذي بالهمز والغمز واللمز، فما زاده ذلك إلا ثباتاً ويقيناً واعتزازاً بالإسلام.
الوصية الرابعة: السفر مظنة الأخطار، وطول السلامة لا تمنح ضمان الرجوع. وإذا كان المسلم مأموراً بأن يكتبَ وصيته وهو في الأمن والاستقرار، فكيف إذا كان على جناح سفر تعترضه المخاوف، وتنوشه الأخطار.
والوصية مستحبة، ولكنَّها واجبة على من عليه ديونٌ وحقوقٌ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده".
فحقٌ على كل من كان في ذمته شيء أن يكتب وصيته آمناً كان أو خائفاً، صحيحاً أو مريضاً.
إن حقوق الناس شأنها معظم في الإسلام، نستجلي ذلك من هذه الأحاديث:
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة -رضي الله عنه-، أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قام فيهم، فذكر لهم أنَّ الجهادَ في سبيل الله والإيمانَ بالله أفضلُ الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله تُكفَّرُ عني خطاياي؟! فقال: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غيرُ مدبر". ثم قال صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ فأعاد عليه، فقال: "نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلا الديْن؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".
وفي الحديث الآخر: "يغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين" [أخرجه مسلم]
وعنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: "هل عليه من دَين؟"، قالوا: لا. فصلى عليه، ثم أُتي بجنازةٍ أخرى، فقال: "هل عليه مِن دَين؟"، قالوا: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا على صاحبكم"، فقال أبو قتادة-رضي الله عنه-: عليَّ دَينُه يا رسول الله؛ فصلى عليه. [متفق عليه].
وعن محمد بنِ جحشٍ -رضي الله عنه-، قال: كنا جلوساً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: "سبحان الله! ماذا نُزِّل من التشديد" ، فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نُزل؟! فقال: "والذي نفسي بيده، لو أنَّ رجلاً قُتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قُتل، ثم أحيي، ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينُه" [أخرجه النسائي بسند صحيح].
فإذا كان هذا هو خطر الديون، وجب على من في ذمته حق للناس -ولا سيَّما إذا عزم على السفر- أن يوصي بقضائها وأدائها إلى أهلها؛ إبراءً للذمة، وتحلُّلاً من التبعة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.