بعد التحولات الخطرة والجولات المتعاقبة هنا سؤال أو عدة أسئلة تطرح، وتحتاج الإجابة إلى رويِّة وتفحص، ليس فراراً من الواقع، أو تسلية للنفس حين يقع المصاب، كلا؛ بل هو تلمس للحكمة الربانية فيما تكره النفوس ، إذ يقول تعالى " فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" [النساء: 19] وقوله تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" [البقرة:216] وهو تصديق لخبر الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
والسؤال يقول: كيف نستثمر المعركة؟ أو ما هي مكاسبنا وخسائر أعدائنا؟ ومرة أخرى لا بد من الواقعية، والقول بأن هناك خسائر لحقت وستلحق المسلمين في هذه الحرب على العراق، وثمة مكاسب لعدونا حققها وقد يُحقق غيرها، ولكن السؤال المطروح استثمار أمثل لنتائج المعركة، وتلمس واعٍ للمكاسب تحت ركام الخسائر، وما من شك أن لكل معركة مكاسب ظاهرة وأخرى خفية، وما من شك كذلك أن مكاسبنا خسارة لعدونا والعكس، والمتأمل في التاريخ الماضي والحاضر يرى صوراً للنصر رآها الناس بعد حين لمن ظنوه منهزماً ، وأذكَّر بنموذجين: الأول: في مؤتة حين قابل المسلمون الروم والنصارى بعدد وعُدَّة غير متكافئة ومع ذلك ثبت المسلمون – وإن استشهد أمراؤهم الثلاثة- وقتل من قتل من المسلمين، واستطاع سيف الله المسلول خالد -رضي الله عنه- أن ينحاز بالبقية الباقية من المسلمين، ويفتح الله عليه ما لم يفتح على أصحابه، ومهما اختلفت عبارات السلف في تقييم نتائج المعركة (بين نصر أو هزيمة أو انحياز) فقد استطاع المسلمون أن يستثمروا المعركة لصالحهم، إذ تحطمت هيبة الروم في نفوسهم، وخبروا أساليب قتالهم، وتعرفوا على نقاط القوة والضعف في جيشهم، ولذا جاء بعث أسامة تأكيداً على قوة المسلمين وعدم خوفهم من الروم، ثم جاءت معركة اليرموك بعد برهاناً على تفوق المسلمين وسقوط دولة الروم على أيديهم.
أما النموذج الحديث: فيمثله تجربة اليابان، حين كانت كارثة هيروشيما ونجازاكي على أيدي الغربيين، ولكن اليابانيين وإن هزموا عسكرياً؛ فقد انتصروا علميا ًوتقنياً واقتصادياً، ونفضوا غبار المعركة وأزاحوا ذل الهزيمة وشقوا طريقاً أخرى للنجاح، وإذا وقع هذا لغير المسلمين؛ أفيعجز المسلمون عن استثمار الفرص، وتحويل الهزيمة إلى نصر؟!.
إن من الإيجابية أن يصبر المسلم على ما يلقى من أذى، وفي الوقت نفسه يفتش عن الجوانب المضيئة- وسط الظلام وفوق الركام – ليتقوى بها ويتسلى، ويُنتج ويستثمر الفرص، ويتجاوز دائرة الإحباط واليأس والقعود والسلبية إلى محيط الأمل والإنتاج والعمل والإيجابية.
ومن هذا المنطلق تعالوا بنا لنقف على شيء من مكاسبنا وخسائرهم في الحرب ولا شك أن مكاسبنا خسائر لأعدائنا، ومكاسبهم خسارة علينا .
01 تقاربنا وفرقتهم، لا شك أن المسلمين يعيشون حالة من الفرقة والتشرذم لا يُحسدون عليها، ولكن الأحداث يمكن أن تضيَّق هذه الهوة، وكفيلة – إذا ما استثمرت- لتوحيد الكلمة وجمع طاقة الأمة، فالخطر يحيط بها، والمخطط يستهدفها برمتها، وفرقتها وتناقضاتها أمضى سلاح يلعب به أعداؤها، وهو مذهب لريحها ومضعف لقوتها وحين تجتمع أو تتقارب تبدأ الطريق الصحيح لمقارعة عدوها. ولا شك أن عاطفة المسلم في المشرق حين تلتقي مع عاطفة المسلم في المغرب شيء عظيم، وهذا ما بدأنا نلمسه في هذه الحروب الظالمة الغاشمة، والمؤمل أن تُنمى هذه المشاعر وتُستثمر.
وفي المقابل كشفت الأحداث عن خلل وفرقة في المواقف بين أعدائنا، ومهما كانت مصالحهم وتبريراتهم فهي خرق في سفينتهم، وهي سهم يصيب القوم ويمكن أن يبيدهم، والمسلمون مطالبون باستثمار هذا الصدع لصالح قضاياهم.
02 وفي الحرب هزيمة لمبادئ القوم، وسقوط لشعاراتهم، وإخفاق لمؤسساتهم وهيئاتهم، فالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان – وما شابهها- باتت مصطلحات مُحنطة من مخلفات الماضي، ومجلس الأمن يحتضر، وهيئة الأمم المتحدة تُركل بأقدامهم .
وهكذا تتسارع في السقوط مصطلحات وهيئات طالما اتكأ عليها الغرب في اتخاذ القرار، وروّج لها في سبيل العولمة والنفوذ والاستعمار، فهل يقيم المسلمون بديلاً صالحاً عن هذه المؤسسات والشعارات في أجواء صراع الحضارات ومقارعة الثقافات؟
03 كما أن من خسائر الغرب في هذه الحرب أنها وسَّعت دائرة الكره لهم ولمبادئهم، وكثّرت من سواد الرافضين لأفكارهم ومبادراتهم، وإذا شهدت عواصمهم موجة من الغضب والمظاهرات المنكرة للحرب، والمطالبة بمحاكمة مجرميها؛ فلا شك أن في تلك الخسارة لهم مكسباً للمسلمين ورصيداً يُضاف إلى رصيدهم، فهل يستثمروه؟ وإذا كان هذا تعبيراً من القوم عن كره الحرب ومجرميها فلا تسأل عن كره المسلمين لهم.
04 ومن مكاسبنا في الحرب أنها صدّقت رؤيا الغيورين من أهل الدعوة والإصلاح، الذين طالما حذروا أمتهم من مكائد اليهود والنصارى وحربهم للإسلام والمسلمين، فجاءت الأحداث الراهنة شاهداً على صدق مقولتهم وبرهاناً على نصحهم لأمتهم، وبالتالي فهم محل ثقتها وعيبةُ نُصِحها، وينبغي أن تسمع الأمة لنصحهم مستقبلاً، وأن تستضيء بآرائهم في كشف عداوة الأعداء ومكرهم .
وفي المقابل كشفت الأحداث الوحشية في التدمير عن زيف الدعاوى، والتي طالما خدع بها المتأمركون والعلمانيون وأدلاء الطريق وأهل النفاق أمتهم حين ضللوها فترة من الزمن، وحسَّنوا لها التشبث بالنموذج الغربي في ممارسة الحياة، فهل يستيقظ هؤلاء، وتحذر الأمة أمثالهم مستقبلاً لاسيما وقد خيّب أسيادهم ظنهم فيهم، وكشفوا عن ظلمهم وطغيانهم؟
05 ومن خسائر الغرب في الحرب أنها أفقدت الثقة بآلاتهم العسكرية، فهي لا تستخدم لتأمين العدل والسلام كما يقولون؛ بل استخدمت بشكل سلبي للتدمير والاحتلال لا تفرق هذه الآلة المدمرة بين مدني أو عسكري، بل ربما تقصَّدت المدنيين الإعلاميين، الذين لا يروقون للغرب فيما ينقلون من أخبار، وكشفت الحرب عن تأسيس خطير لمبدأ التدخل في شؤون الدول، بما يعيد للأذهان حقبة الاستعمار البائدة، وهذا النمط الصارخ للتغيير بلغة السلاح مهما حقق اليوم من نتائج للقوم؛ فسيوقظ في الأمة روح الجهاد والمقاومة للمستعمر مستقبلاً.
06 وإذا كانت هذه الخسارة لهم على مستوى الآلة العسكرية، فقد مُنوا بخسارة إعلامية، وآلتهم الإعلامية كشفت كذباً وتزويراً للحقائق وخداعاً للشعوب واستخفافا بالعقول، وهو ما كان الغرب يروج لخلافة، ويزعمون المصداقية لإعلامهم، وسيكتشف العالم كم حجبت هذه الآلة الإعلامية من حقائق، وكم ضللت، وهذا سقوط مريع لإعلامهم وعلى المسلمين أن يستثمروه لصالحهم.
07 ومن مكاسب المسلمين في هذه الحرب أنها أحيت في نفوسهم مشاعر العزة بالإسلام، فقد كانت الضربة من الوحشية واللؤم بحيث أيقظت نيام المسلمين، وأذكت مشاعر الغافلين، وبات المسلمون – عربُهم وعجمهم- يشعرون بأنهم وحدهم هدف الحاضر والمستقبل لهؤلاء، ويشعرون في مقابل ذلك أن تأمين دولة اليهود في المنطقة هدفٌ يراد للغرب، ولذا فسيعمَّق ذلك شعوراً بالكره لليهود والنصارى المتحالفين، ويحيي ما ذبل من مفاهيم الولاء والبراء عند المسلمين. وبات يتردد على الألسنة كثيراً عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وأحسّ المُفرَّطون من المسلمين بحاجتهم إلى التوبة والعودة إلى الدين، ولم يعد الحديث عن الجهاد للغزاة المستعمرين حديثاً نظرياً؛ بل واقعاً ملموساً، ولقد كان حمق القوم وصلفهم سبباً في إشعال هذا الفتيل، وبدلاً أن يحذروا مجاهداً واحداً، فإذا بهم يواجهون أسراباً من المجاهدين المتطوعين .
08 ومن مكاسبنا في الحرب تعميق الوعي بشكل كبير في أفراد الأمة المسلمة، فقد تكشفت الحقائق والمخططات أكثر من ذي قبل، وكانت الحرب بصلفها وتسارعها وما صاحبها من تصريحات وأهداف أكبر وسيلة للتعبير وكشف الخطط، الأمر الذي كان يحتاج – قبل الحرب- إلى كم من المحاضرات والندوات والكتب المؤلفة حتى يقتنع عوام المسلمين والمنخدعين منهم، ولكن الحرب جاءت لتقصر مسافة الوعي، وجاءت الحرب لتصنف الناس، وتكشف عن المواقف والتحالفات المريبة، وظهرت على جانب راية الصليب راياتٌ للكذب والنفاق، والتدليس والخداع "وما ربك بغافل عما يعملون" .
09 ومن مكاسبنا في الحرب أن الفرصة للدعوة مواتية في الدعوة للدين الحق، وكشف محاولة الأعداء لتشويه صورة الإسلام، ونبي الإسلام، وبلاد المسلمين وتعرية عقيدة اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، ودعوة المسلمين للتمسك بدينهم في ظل هذه الهجمة الصليبية الصهيونية الشرسة، إلى غير ذلك من مفردات الدعوة باتت الآذان مهيأة لسماعها أكثر من ذي قبل، فهل يا ترى يستثمر المسلمون عامة، والدعاة والعلماء والمفكرون المسلمون خاصة هذه الفرصة المواتية للدعوة؟.
10 ومن مكاسبنا في ظل هذه الهجمة أن كثيراً من المفاهيم والأنماط والسلوكيات الاجتماعية سيُعاد النظر فيها، أعني تلك التي صُدَّرت لنا من الغرب على مستوى الرجل والمرأة وعلى مستوى المثقفين وغيرهم، فالكره للغرب سيسري على كره صادراتهم الفكرية وأنماط حياتهم الاجتماعية، ولا مجال اليوم وغداً لمن كانوا ينظرون للغرب عامة ولأمريكا خاصة على أنها قبلة الفكر، ونموذج القيم، فقد كشف القوم عن حقيقتهم، وآن الأوان للمسلمين أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأنماط حياتهم الاجتماعية.
11 ومن مكاسبنا في الحرب أنها كشفت عن تفاعلات جيدة، ومواقف مشكورة لدى أفراد الأمة المسلمة، فهذا يستنكر وآخر يتحسر، وثالث يقنت داعياً، ورابع يكتب في جريدة، أو يتحدث في إذاعة أو يظهر في قناة مرئية، وكل أولئك يُسهم في النصح والدعوة حسب ما يسر الله له، ومهما كانت هذه المواقف دون مستوى المأمول من الأمة، فهي إسهامات تحسب، وهي بدايات تشجع، والموفق من سدده الله، وآثر الحق على الخلق، وأرضى الله وإن سخط الناس عنه، فالكلمة أمانة ومسؤولية وفي التنزيل "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"، وبكل حال تبقى هذه الإسهامات وغيرها نماذج للتفاعل مع قضايا الأمة، يمكن لها أن تتطور وتتعمق أكثر في المستقبل، إذا ثُمنت وشجعت وقيمت واستُنفرت لها طاقات الأمة .
12 التفكير الجماعي والمشورة، والتفكير بأساليب للخروج من الأزمة غانمين، وليس مجرد سالمين.. هذه إيجابية طالما غفل عنها المسلمون، إذ اعتادوا على التفكير الأحادي، والمشاريع الفردية، وهذه مع أهميتها إلا أن المشورة على الخير والتعاون على البر والتقوى من سمات المسلمين ودينهم، ولقد كان لهذه الأزمات أثر في تحريكها وتقريب وجهات النظر، وتشديد بعض المسلمين لبعض في ما يعملون أو يدعون، والمأمول أن تزيد هذه الإيجابية، وأن يستمر هذا التعاون على الخير والمشورة لصالح الإسلام وقضايا المسلمين فالمؤمنون إخوة، والمسلم أخو المسلم .
13 وأخيراً- وليس آخراً – دعوة للمساهمة! فأنت مدعو أخي المسلم للمساهمة في استثمار الأزمة ورد مكائد الأعداء عن الأمة، فماذا قدمت؟ هل ساهمت بكلمة طيبة؟ هل تقدمت بمقترح مفيد؟ هل فكرت في مشروع دعوي نافع ؟ هل أعنت ملهوفاً؟ هل دعوت – من قلب- لمكروب؟ أي نوع من المساهمة قدمت لنفسك ولأمتك؟ هل يكفي أو يصح أن تقول لا أستطيع على شيء؟ هل ترضى أن تكون رقماً هامشياً في أمتك؟ وهل يكفيك أن تدير موجات المذياع بحثاً عن آخر الأخبار – ثم ماذا؟
أو تنظر بسلبية إلى المشاهد الدامية في القنوات عن إخوانك المسلمين وهم يحاصرون ويقتلون وتحتل أرضهم ويُسطى على مقدراتهم؟ إنها دعوة للمساهمة، ومن عمل صالحاً فلنفسه، والإسلام مسؤوليتنا جميعاً، وكيد الأعداء يستهدفنا جميعاً، وحقوق المسلمين علينا جميعاً .
والسؤال يقول: كيف نستثمر المعركة؟ أو ما هي مكاسبنا وخسائر أعدائنا؟ ومرة أخرى لا بد من الواقعية، والقول بأن هناك خسائر لحقت وستلحق المسلمين في هذه الحرب على العراق، وثمة مكاسب لعدونا حققها وقد يُحقق غيرها، ولكن السؤال المطروح استثمار أمثل لنتائج المعركة، وتلمس واعٍ للمكاسب تحت ركام الخسائر، وما من شك أن لكل معركة مكاسب ظاهرة وأخرى خفية، وما من شك كذلك أن مكاسبنا خسارة لعدونا والعكس، والمتأمل في التاريخ الماضي والحاضر يرى صوراً للنصر رآها الناس بعد حين لمن ظنوه منهزماً ، وأذكَّر بنموذجين: الأول: في مؤتة حين قابل المسلمون الروم والنصارى بعدد وعُدَّة غير متكافئة ومع ذلك ثبت المسلمون – وإن استشهد أمراؤهم الثلاثة- وقتل من قتل من المسلمين، واستطاع سيف الله المسلول خالد -رضي الله عنه- أن ينحاز بالبقية الباقية من المسلمين، ويفتح الله عليه ما لم يفتح على أصحابه، ومهما اختلفت عبارات السلف في تقييم نتائج المعركة (بين نصر أو هزيمة أو انحياز) فقد استطاع المسلمون أن يستثمروا المعركة لصالحهم، إذ تحطمت هيبة الروم في نفوسهم، وخبروا أساليب قتالهم، وتعرفوا على نقاط القوة والضعف في جيشهم، ولذا جاء بعث أسامة تأكيداً على قوة المسلمين وعدم خوفهم من الروم، ثم جاءت معركة اليرموك بعد برهاناً على تفوق المسلمين وسقوط دولة الروم على أيديهم.
أما النموذج الحديث: فيمثله تجربة اليابان، حين كانت كارثة هيروشيما ونجازاكي على أيدي الغربيين، ولكن اليابانيين وإن هزموا عسكرياً؛ فقد انتصروا علميا ًوتقنياً واقتصادياً، ونفضوا غبار المعركة وأزاحوا ذل الهزيمة وشقوا طريقاً أخرى للنجاح، وإذا وقع هذا لغير المسلمين؛ أفيعجز المسلمون عن استثمار الفرص، وتحويل الهزيمة إلى نصر؟!.
إن من الإيجابية أن يصبر المسلم على ما يلقى من أذى، وفي الوقت نفسه يفتش عن الجوانب المضيئة- وسط الظلام وفوق الركام – ليتقوى بها ويتسلى، ويُنتج ويستثمر الفرص، ويتجاوز دائرة الإحباط واليأس والقعود والسلبية إلى محيط الأمل والإنتاج والعمل والإيجابية.
ومن هذا المنطلق تعالوا بنا لنقف على شيء من مكاسبنا وخسائرهم في الحرب ولا شك أن مكاسبنا خسائر لأعدائنا، ومكاسبهم خسارة علينا .
01 تقاربنا وفرقتهم، لا شك أن المسلمين يعيشون حالة من الفرقة والتشرذم لا يُحسدون عليها، ولكن الأحداث يمكن أن تضيَّق هذه الهوة، وكفيلة – إذا ما استثمرت- لتوحيد الكلمة وجمع طاقة الأمة، فالخطر يحيط بها، والمخطط يستهدفها برمتها، وفرقتها وتناقضاتها أمضى سلاح يلعب به أعداؤها، وهو مذهب لريحها ومضعف لقوتها وحين تجتمع أو تتقارب تبدأ الطريق الصحيح لمقارعة عدوها. ولا شك أن عاطفة المسلم في المشرق حين تلتقي مع عاطفة المسلم في المغرب شيء عظيم، وهذا ما بدأنا نلمسه في هذه الحروب الظالمة الغاشمة، والمؤمل أن تُنمى هذه المشاعر وتُستثمر.
وفي المقابل كشفت الأحداث عن خلل وفرقة في المواقف بين أعدائنا، ومهما كانت مصالحهم وتبريراتهم فهي خرق في سفينتهم، وهي سهم يصيب القوم ويمكن أن يبيدهم، والمسلمون مطالبون باستثمار هذا الصدع لصالح قضاياهم.
02 وفي الحرب هزيمة لمبادئ القوم، وسقوط لشعاراتهم، وإخفاق لمؤسساتهم وهيئاتهم، فالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان – وما شابهها- باتت مصطلحات مُحنطة من مخلفات الماضي، ومجلس الأمن يحتضر، وهيئة الأمم المتحدة تُركل بأقدامهم .
وهكذا تتسارع في السقوط مصطلحات وهيئات طالما اتكأ عليها الغرب في اتخاذ القرار، وروّج لها في سبيل العولمة والنفوذ والاستعمار، فهل يقيم المسلمون بديلاً صالحاً عن هذه المؤسسات والشعارات في أجواء صراع الحضارات ومقارعة الثقافات؟
03 كما أن من خسائر الغرب في هذه الحرب أنها وسَّعت دائرة الكره لهم ولمبادئهم، وكثّرت من سواد الرافضين لأفكارهم ومبادراتهم، وإذا شهدت عواصمهم موجة من الغضب والمظاهرات المنكرة للحرب، والمطالبة بمحاكمة مجرميها؛ فلا شك أن في تلك الخسارة لهم مكسباً للمسلمين ورصيداً يُضاف إلى رصيدهم، فهل يستثمروه؟ وإذا كان هذا تعبيراً من القوم عن كره الحرب ومجرميها فلا تسأل عن كره المسلمين لهم.
04 ومن مكاسبنا في الحرب أنها صدّقت رؤيا الغيورين من أهل الدعوة والإصلاح، الذين طالما حذروا أمتهم من مكائد اليهود والنصارى وحربهم للإسلام والمسلمين، فجاءت الأحداث الراهنة شاهداً على صدق مقولتهم وبرهاناً على نصحهم لأمتهم، وبالتالي فهم محل ثقتها وعيبةُ نُصِحها، وينبغي أن تسمع الأمة لنصحهم مستقبلاً، وأن تستضيء بآرائهم في كشف عداوة الأعداء ومكرهم .
وفي المقابل كشفت الأحداث الوحشية في التدمير عن زيف الدعاوى، والتي طالما خدع بها المتأمركون والعلمانيون وأدلاء الطريق وأهل النفاق أمتهم حين ضللوها فترة من الزمن، وحسَّنوا لها التشبث بالنموذج الغربي في ممارسة الحياة، فهل يستيقظ هؤلاء، وتحذر الأمة أمثالهم مستقبلاً لاسيما وقد خيّب أسيادهم ظنهم فيهم، وكشفوا عن ظلمهم وطغيانهم؟
05 ومن خسائر الغرب في الحرب أنها أفقدت الثقة بآلاتهم العسكرية، فهي لا تستخدم لتأمين العدل والسلام كما يقولون؛ بل استخدمت بشكل سلبي للتدمير والاحتلال لا تفرق هذه الآلة المدمرة بين مدني أو عسكري، بل ربما تقصَّدت المدنيين الإعلاميين، الذين لا يروقون للغرب فيما ينقلون من أخبار، وكشفت الحرب عن تأسيس خطير لمبدأ التدخل في شؤون الدول، بما يعيد للأذهان حقبة الاستعمار البائدة، وهذا النمط الصارخ للتغيير بلغة السلاح مهما حقق اليوم من نتائج للقوم؛ فسيوقظ في الأمة روح الجهاد والمقاومة للمستعمر مستقبلاً.
06 وإذا كانت هذه الخسارة لهم على مستوى الآلة العسكرية، فقد مُنوا بخسارة إعلامية، وآلتهم الإعلامية كشفت كذباً وتزويراً للحقائق وخداعاً للشعوب واستخفافا بالعقول، وهو ما كان الغرب يروج لخلافة، ويزعمون المصداقية لإعلامهم، وسيكتشف العالم كم حجبت هذه الآلة الإعلامية من حقائق، وكم ضللت، وهذا سقوط مريع لإعلامهم وعلى المسلمين أن يستثمروه لصالحهم.
07 ومن مكاسب المسلمين في هذه الحرب أنها أحيت في نفوسهم مشاعر العزة بالإسلام، فقد كانت الضربة من الوحشية واللؤم بحيث أيقظت نيام المسلمين، وأذكت مشاعر الغافلين، وبات المسلمون – عربُهم وعجمهم- يشعرون بأنهم وحدهم هدف الحاضر والمستقبل لهؤلاء، ويشعرون في مقابل ذلك أن تأمين دولة اليهود في المنطقة هدفٌ يراد للغرب، ولذا فسيعمَّق ذلك شعوراً بالكره لليهود والنصارى المتحالفين، ويحيي ما ذبل من مفاهيم الولاء والبراء عند المسلمين. وبات يتردد على الألسنة كثيراً عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وأحسّ المُفرَّطون من المسلمين بحاجتهم إلى التوبة والعودة إلى الدين، ولم يعد الحديث عن الجهاد للغزاة المستعمرين حديثاً نظرياً؛ بل واقعاً ملموساً، ولقد كان حمق القوم وصلفهم سبباً في إشعال هذا الفتيل، وبدلاً أن يحذروا مجاهداً واحداً، فإذا بهم يواجهون أسراباً من المجاهدين المتطوعين .
08 ومن مكاسبنا في الحرب تعميق الوعي بشكل كبير في أفراد الأمة المسلمة، فقد تكشفت الحقائق والمخططات أكثر من ذي قبل، وكانت الحرب بصلفها وتسارعها وما صاحبها من تصريحات وأهداف أكبر وسيلة للتعبير وكشف الخطط، الأمر الذي كان يحتاج – قبل الحرب- إلى كم من المحاضرات والندوات والكتب المؤلفة حتى يقتنع عوام المسلمين والمنخدعين منهم، ولكن الحرب جاءت لتقصر مسافة الوعي، وجاءت الحرب لتصنف الناس، وتكشف عن المواقف والتحالفات المريبة، وظهرت على جانب راية الصليب راياتٌ للكذب والنفاق، والتدليس والخداع "وما ربك بغافل عما يعملون" .
09 ومن مكاسبنا في الحرب أن الفرصة للدعوة مواتية في الدعوة للدين الحق، وكشف محاولة الأعداء لتشويه صورة الإسلام، ونبي الإسلام، وبلاد المسلمين وتعرية عقيدة اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، ودعوة المسلمين للتمسك بدينهم في ظل هذه الهجمة الصليبية الصهيونية الشرسة، إلى غير ذلك من مفردات الدعوة باتت الآذان مهيأة لسماعها أكثر من ذي قبل، فهل يا ترى يستثمر المسلمون عامة، والدعاة والعلماء والمفكرون المسلمون خاصة هذه الفرصة المواتية للدعوة؟.
10 ومن مكاسبنا في ظل هذه الهجمة أن كثيراً من المفاهيم والأنماط والسلوكيات الاجتماعية سيُعاد النظر فيها، أعني تلك التي صُدَّرت لنا من الغرب على مستوى الرجل والمرأة وعلى مستوى المثقفين وغيرهم، فالكره للغرب سيسري على كره صادراتهم الفكرية وأنماط حياتهم الاجتماعية، ولا مجال اليوم وغداً لمن كانوا ينظرون للغرب عامة ولأمريكا خاصة على أنها قبلة الفكر، ونموذج القيم، فقد كشف القوم عن حقيقتهم، وآن الأوان للمسلمين أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأنماط حياتهم الاجتماعية.
11 ومن مكاسبنا في الحرب أنها كشفت عن تفاعلات جيدة، ومواقف مشكورة لدى أفراد الأمة المسلمة، فهذا يستنكر وآخر يتحسر، وثالث يقنت داعياً، ورابع يكتب في جريدة، أو يتحدث في إذاعة أو يظهر في قناة مرئية، وكل أولئك يُسهم في النصح والدعوة حسب ما يسر الله له، ومهما كانت هذه المواقف دون مستوى المأمول من الأمة، فهي إسهامات تحسب، وهي بدايات تشجع، والموفق من سدده الله، وآثر الحق على الخلق، وأرضى الله وإن سخط الناس عنه، فالكلمة أمانة ومسؤولية وفي التنزيل "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"، وبكل حال تبقى هذه الإسهامات وغيرها نماذج للتفاعل مع قضايا الأمة، يمكن لها أن تتطور وتتعمق أكثر في المستقبل، إذا ثُمنت وشجعت وقيمت واستُنفرت لها طاقات الأمة .
12 التفكير الجماعي والمشورة، والتفكير بأساليب للخروج من الأزمة غانمين، وليس مجرد سالمين.. هذه إيجابية طالما غفل عنها المسلمون، إذ اعتادوا على التفكير الأحادي، والمشاريع الفردية، وهذه مع أهميتها إلا أن المشورة على الخير والتعاون على البر والتقوى من سمات المسلمين ودينهم، ولقد كان لهذه الأزمات أثر في تحريكها وتقريب وجهات النظر، وتشديد بعض المسلمين لبعض في ما يعملون أو يدعون، والمأمول أن تزيد هذه الإيجابية، وأن يستمر هذا التعاون على الخير والمشورة لصالح الإسلام وقضايا المسلمين فالمؤمنون إخوة، والمسلم أخو المسلم .
13 وأخيراً- وليس آخراً – دعوة للمساهمة! فأنت مدعو أخي المسلم للمساهمة في استثمار الأزمة ورد مكائد الأعداء عن الأمة، فماذا قدمت؟ هل ساهمت بكلمة طيبة؟ هل تقدمت بمقترح مفيد؟ هل فكرت في مشروع دعوي نافع ؟ هل أعنت ملهوفاً؟ هل دعوت – من قلب- لمكروب؟ أي نوع من المساهمة قدمت لنفسك ولأمتك؟ هل يكفي أو يصح أن تقول لا أستطيع على شيء؟ هل ترضى أن تكون رقماً هامشياً في أمتك؟ وهل يكفيك أن تدير موجات المذياع بحثاً عن آخر الأخبار – ثم ماذا؟
أو تنظر بسلبية إلى المشاهد الدامية في القنوات عن إخوانك المسلمين وهم يحاصرون ويقتلون وتحتل أرضهم ويُسطى على مقدراتهم؟ إنها دعوة للمساهمة، ومن عمل صالحاً فلنفسه، والإسلام مسؤوليتنا جميعاً، وكيد الأعداء يستهدفنا جميعاً، وحقوق المسلمين علينا جميعاً .